رواية الحب السادي ( رواية طويلة ) محدث يوميا
روايـــــــة الحــــب الســـــادي
=========
الفصـــــل الأول
======
في أحد الأماكن المطلة على شاطئ كورنيش النيل ، و على الضفة المواجهة لمنظر غروب الشمس الساحر بوقت الأصيل ، و عند التقاء حموة قرص الشمس الأحمر الدافئ بسطح صفحة النيل البارد ، و عند ابتلاعها للشمس شيئاً فشيئاً . و الطيور تدور في دورات واسعة استعداداً للاستكانة بأوكارها ، و تحت ستار إحدى الأشجار الوارفة ، جلس شابان لو اقتربنا منهما لاستبينا أنهما في سن قد ناهزا العقد الثاني ببضع سنوات .
جلس صلاح ذا البشرة السمراء المليحة , و بملامحه الوسيمة التي تفيض حيوية , و شباباً , و بهندامه الأنيق , و ذقنه الحليق , و بجسده الفتيّ ، جلس مع فتاة حسناء ذات ملامح دقيقة رقيقة ، و قد مالت بجسدها الممتلئ أنوثة على كتف صلاح ، يراقبان المشهد البديع الساحر , و كأنه لوحة طبيعية قد أبدعتها يد البارئ .
جلسا , و لم يشعرا كم مضى عليهما من زمن ، فقد سقط الزمن من حسهما ، و حتى تعليقات المارة من شباب غيور متطفل بعينه الحاسدة , أو من صبية مارين لم تؤثر فيهما ، فقد استقرا داخل سيارة ذات لون بهيج شبابية تسر الناظرين ,
نظرت الفتاة إلى وجه صلاح الشارد باتجاه النيل ، و قد اكتست ملامحه ببعض الصرامة , فزاد ذلك من حسرتها بالحزن و اليأس العميق الذي تنشق له الصدور رأفة بحالها . لكن هيهات أن يؤثر ذلك في قلب صلاح ، فقد تحاشى نظراتها المسددة إليه أو تؤثر في مشاعره بدمعها الغزير فيثنيه عما قد عوله , و اعتزمه , فسألته متوسلة :
- يعني خلاص كل شيء انتهى يا صلاح ؟ ! كل شيء نسيته بالسهولة دي ؟ ! قال حازماً شارحاً بفروغ صبر :
- قلت لكِ مية مرة إن الأمر مش بإيدي ، دا الحظ الهباب النحس اللي ورايا ورايا يا حبيبتي ، مش مكتوب لنا نكمل علاقتنا نعمل إيه بقى ؟ ! ، دا ذنب التجنيد اللي هيحرمني منكِ , و من طلة وش القمر دي اللي باموت فيها . على أي حال هحاول الاتصال بيكي , أو أبعت لكِ , و إن كنت أشك أنه هيوصلكِ حاجة أصلاً من مكان تجنيدي دا في اخر الدنيا , أو أحاول اتصل بيكي من أي حد معاه موبايل هناك , و إن كنت اسمع أن الموبايلات ممنوعة في الجيش أصلاً، المهم سيبك من دا كله دلوقت خلينا نستمتع بقربنا كل لحظة يا حبيبتي مع بعض يمكن ما تتكررش تاني . قالت بصوت باكي منفطرة القلب :
- ما تقلش حبيبتك خالص ! ! لو كنت بتحبني صحيح زي ما بتقول كدا كنت رحت تخطبني من بابا زي ما وعدتني من زمان .. لكن يظهر إني هنت عليك خلاص .. أنت قلبك قاسي عليّ قوي يا صلاح ! أنت ما كنتش كدا معايا .. انت اتغيرت خالص فجأة كدا ليه ؟ حصل مني حاجة زعلتك ؟ ! صدر مني أي حاجة غلط ؟ ! , فرد في حنق :
- انتِ مصرة تخلي آخر ليلة لنا مع بعض خناق , و نكد مش هيفيد ، طيب مش هقدر أنفذ وعدي , و إن كنت ما وعدت بشيء أساسا ، إنما ظروفي الملخبطة اللي انتي عارفاها هي اللي حتمت عليّ دا , و ما تنسيش أني ما جهزتش نفسي للارتباط لحد دلوقت أصلا ! !
- ثم أردف : دا إلى جانب رحيلي بكرة للتجنيد ؛ عشان كدا سيبك من الكلام الفارغ دا , و شوفي معايا الجو الساحر اللي حوالينا الطبيعة ملك لنا يا حبيبتي الليلة دي . قالت حانقة , و الدموع تطفر من عيونها :
- يعني كنت بتلعب بي كل المدة دي ؟ ! فرد متأففاً :
- يظهر أن الليلة ضاعت فعلاً بالعبط اللي مش هيقدم , و لا يأخر شيئ ، انتي بتكتبي بايدك دلوقت آخر سطر لنا في صفحة حبنا ، طيب جه وقت الرحيل عاوزة تنزلي فين يا حبيبة قلبي من جوا ؟ أنا ماشي خلاص .
- فهتفت تهتز غضباً : بكل البرود دا ؟ ! أرجوك يا صلاح ارحمني . . ارحم قلبي . . مش هعيش من غيرك بلاش تذلني أكتر من كدا !
- قال متشاغلاً ناظراً إلى ساعته و بلهجة حاسمة :
- طيب أنا كنت ماشي ، أنا مشيت فعلاً ، يظهر إنك هتنزلي هنا يا حبيبة قلبي من جوا ، مش هعطلك كتير ، أراكي أمس يا روحي .. سلام ..
ثم فتح لها الباب مشيراً لها بالنزول .. لم تجد بداً , فنزلت تهتز من حرقة البكاء بصوت قد لفت نظر المارة ، و أوقف بعض المتطفلين ليراقبوا هذا المشهد التراجيدي المؤثر . فأشار لها مودعاً , و انطلق مولياً الأدبار , و هي تتابعه بقلبها الدامي , و بعينها الكسيرة , فقالت في نفسها : في يوم قريب هنتقم منك , و أرد لك القلم يا صلاح .. اصبر عليّ ..
صعد صلاح درج صديقه الحميم محمد متقافزاً فرحاً و على وجهه ابتسامة عريضة تنم عن نشوة عارمة ، فأخذ يطرق الباب و هو يصفر بشكل منغم ، فأدرك محمد لفوره من الطارق ، ففتح له الباب و دون حتى أن ينظر إليه أشار له بالدخول قائلاً :
- اتفضل في أوضتي يا أبو صلاح . ثم دلفا غرفته المليئة بالصور التعبيرية لأشكال الحب الملتهب ، فعلق صلاح قائلاً :
- تبيع على كم ؟ عندي لك مشتري مغفل من سوق الخردة و هتكون عليه بخسارة كمان يا عم . .
- رد محمد ساخراً : ممكن أعرف أولاً سر فرحتك دي كلها ايه ؟ ! اللي ما بتجيش إلا بمصيبة أو مغامرة زي ما بتسميها أنت ، و ثانياً اللوح دي بقى يا جاهل الفن تبقى صور تعبيرية عن الحب اللي يملا قلوب العاشقين و مشاعرهم ، و اللي أؤمن به أنا شخصياً و أتمنى إنك تؤمن به في يوم من الأيام مش العبط اللي بتعمله و تسميه حب يا أستاذ صلاح ! !
- رد صلاح في سخرية : شوف يا سيدي ، أولاً فرحتي دي عشان خلاص أخيراً خلصت من البنت اللي كانت مكتفاني كل الفترة اللي فاتت و فضلت متعلقة في رقبتي و بعد مجهود رهيب ، طبعاً حاولت تأثر علي بكلمتين على دمعتين على شهقتين و شوية كلمات وداع ملتهبة ، كلها أسلحة بنات حوا ، كلهم نفس الفصيلة يا صاحبي . ثم أردف :
- أما العواطف النبيلة و العواطف الجياشة بتاعتك دي مش حتلاقيها إلا في اللوح اللي على الحيطة بس ؛ لأنها في الخيال و بس ، أما الحب الحقيقي هو اللي باعمله أنا صدقني دي حقيقة مش تفاهة بس هتعرفها لما تكبر شوية و تجربها بنفسك .
- رد محمد مشمئزاً : أنا باتعجب ازاي قلبك بيتحمل منظر دموع البنات دي كلها ؟ ! هو قلبك دا حجر صوان و لا حطوا حتة حديد مكانه ؟ ! بيتهيألي قلبك شغال و ظائف حيوية بس عشان تعيش مش أكتر ما فتحوش قسم جديد فيه اسمه مشاعر . ضحك صلاح حتى اهتز بدنه وعلق مشيحاً بوجهه :
- طيب طيب يا صاحبي الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية .
- سأله محمد مستفسراً : و اتخلصت منها ازاي بقى يا عقرب ؟ !
- رد صلاح بزهو : لا أبداً بسيطة لفقت لها حكاية في رواية ، بأني مسافر للتجنيد و مش حانتقابل تاني ، هنا في دماغي مخ مش فردة جزمة ، كل تفكيري منصب على فكرة واحدة بس ازاي اهرب بعد ما أوصل للي عاوزه . قال محمد :
- آه منك أنت ، أنت خلاص عجبتك تجاربك دي ؟ مش بتبطل خالص ؟ ، أنت ايه مش بتزهق من تعذيب الناس ؟ ! رد صلاح مقتضباً :
- طيب كفاية كدا درس النهاردة ، وصلنا لنقطة النهاية ، قولي هتنزل معايا ولا ايه ؟ رد محمد مستميلاً :
- يظهر إني انفعلت عليك ، معلش يا صاحبي سامحني أنت عارف اني بحبك زي أخويا ، و مش عاوز أشوفك في الصورة المشوهة دي ، مش عاوزك توصل لنقطة اللا عودة و لا تحس بالندم في يوم . ثم أردف هو يغير ملابسه :
- ما تنساش كما تدين تدان ، و مش عاوزك تمر بنفس التجربة دي ، و تتكوي بنارها . رد صلاح ساخراً :
- اطمن على صاحبك ، و لعلمك قلبي محصن ضد الحب ، لأني ببساطة ما قابلتش البنت اللي تقاومني ، كلهم طينة واحدة ، كل تفكيرهم منصب حوالين الارتباط و ازاي توقع الولد في شباك الجواز ، عشان تلاقي نفسك في النهاية متسلسل و واخدينك من الدار للنار وتبقى النهاية .
و في أثناء هبوطهم الدرج صادفا فتاة فائقة الحسن ، ذهبية الشعر مهدل في انسياب ليغرق كتفيها ، و عيناها في زرقة البحر ، بشرتها بيضاء مشربة بحمرة الورد تطل من عنقها ، فأضفت عليها سحراً أخاذاً و جاذبية ينشرح لها الفؤاد الناظر فترديه أسيراً ، فتسمر صلاح في مكانه و لم يبرحه ، محدقاً في وجهها الملائكي :
- فقال في إعجاب بالغ : سبحان الله أبدع ما خلق . فالتفتت ناحيته ، ثم نظرت لمحمد , و حيته فحياها جاذباً ذراع صلاح ليفسح لها الطريق ، فابتسمت وتجاوزتهما ، ثم دلفت إلى الشقة المجاورة ، فوضع محمد كفه أمام عيني صلاح ليفيق من غيبوبته هاتفاً :
- ياااه يا محمد ! ! مين صاحبة القوام الفرنساوي دي ؟ ! دي رائعة الحسن و أجمل ما رأيت في حياتي كلها ! ! آه يا قلبي ياني ..
- رد محمد محذراً و هو يجذبه من ذراعه : لا . . اوعى . . ابعد عنها يا صلاح ، دي جارتي ، و أي شيء يمسها يمسني ، طلعها من دماغك اللي عاوزة النسف دي .
- قال صلاح ناظراً تجاهها و كأنه لم يسمع شيئاً : هه ؟ مش عارف ليه بيتهيأ لي أنها أجنبية أو فيها عرق أجنبي من ملامحها .. صح ؟ أرجوك يا محمد قولي , و أوعدك مش هاتعرض لها ، دا حب استطلاع بس يا محمد مش أكتر ، صدقني يا حمو .
- نظر محمد في عينيه ليستشف ما في أعماقه ثم رد عليه : طيب . . شوف يا سيدي هي بالفعل من أصل أجنبي ، والدها مصري , و لكن أمها أجنبية ، هيه ؟ ارتحت دلوقت بقى ؟
- و هي عايشة مع أسرتها هنا ؟ مش كدا ؟
- رد محمد حانقاً : لا يا سيدي ، عايشة لوحدها عشان أمها سافرت .
- طيب ليه لابسة أسود ؟ يا حمودة يا حبيب قلبي يا روحي ..
- نظر محمد له بشك , و قال بتأفف : عشان أبوها مات ، هيه . . خلصت تحقيق ؟ !
- قال صلاح في لهجة الخبث : طيب ، ليه ما لفتتش نظرك ؟ أنت اتعميت يا محمد , و لا ايه , و لا عاوز تركب نضارة ؟ !
- لا يا سيدي . . كل علاقتنا صداقة و جيرة قوية و بريئة بس . . كتير باساعدها في دراستها ، عشان كدا هي بتكن لي كل احترام حتى الدقايق القليلة اللي فاتت . .
- فأطرق رأسه , و قال في أسى : و بعد اللي سمعته هي منك ، و أنت معايا فلازم أن صورتي راحت في داهية خلاص , والحمد لله ، و احتمال تقطع صلتها بي خالص ، و يمكن تكون سبب أساسي في طردي من العمارة كلها ، آه ياني الله يخرب بيتك يا صلاح ! أعمل ايه يا رب بس ؟ أروح منك فين بس ؟ !
- أخذ صلاح يضحك منه حتى دمعت عيناه , ثم أردف محمد جاداً : دي رهيفة خالص , و أخلاقها ممتازة , و ما تتحملش خدش شعرة ، يا ريتها ما طلعت في الساعة النحس دي ، لكنك وعدتني يا صلاح , و مش حاسمح لك أبداً .. طبعاً أنت فاهمني
- رد صلاح ضاحكاً : لا لا ما تحطش في دماغك كدا , و روق كدا دمك ، احنا ما وصلناش لسه للمرحلة دي ..
ثم انصرفها , و صلاح ينظر بطرف عينه صوب باب شقتها , و ابتسم في خفية , ثم مضى
نهــــايـــة الفصــــل الأول
=============
الفصـــــل الثـــــاني
=========
عاد صلاح إلى منزله , و صورة الفتاة الشقراء لا تبرح ذهنه الذي أخذ يعمل في سرعة للتعامل مع هذا الصيد الثمين اللذيذ , و حينئذ تنبه إلى تحذير محمد له فقال لنفسه :
- لازم أخد بالي خصوصاً من محمد لكن إزاي أوصلها من غير ما يقف لي زي العقلة في الزور ؟ !
حتى غالبه النعاس , و في الصباح قام صلاح نشيطاً , فحلق ذقنه , ثم ارتدى ملابسه سريعاً , و اتجه إلى منزل صديقه محمد كعادته كل صباح ؛ للذهاب إلى كليتهما , فقد كان محمد طالباً في كلية الآداب قسم الفلسفة , و صلاح في كلية الحقوق .
و في الطريق بدأ صلاح في خطته بأن اقترح الخروج مع محمد مساءً , و بالفعل , و في المساء ذهب إليه , و عندما بلغ شقة الفتاة قرأ على بابها لافتة معدنية خاصة بأبيها منقوش عليها " أدهم ذهني صاحب مكتب استيراد و تصدير" , فظهرت على شفتيه ابتسامة ذات مغزى مبهم , و ما أن التقى بمحمد حتى أخذ يسامره , و استطرق لموضوع الفتاة , فتظاهر بالسذاجة متسائلاً :
- ايه أخبار جارتك الشقرا يا ترى ؟ ما شفتهاش يا ابو حميد ؟
- رد محمد في غيظ واضح : يا لئيم يا مفتح ، ما تحاولش معايا اللعبة دي .. قديمة يا معلم ، و بعدين ما يهمكش أي أخبار عنها ، أنت نسيت وعدك لي , و لا ايه ؟!
- طيب ماشي ، عموماً مش محتاج إلى معلوماتك العظيمة أنا أقدر أعرف اللي عاوزه ، و لعلمك أنا عرفت أن أبوها كان على صلة عمل بوالدي الله يرحمه ، مش كان بالأمارة صاحب مكتب استيراد و تصدير ؟
- صاح محمد مذهولاً , و قد وقع في الشرك : هه يخرب بيتك ، نهارك أسود ، عرفت ازاي دا انت شيطان ؟ ! !
- فاستغل صلاح وقع المفاجأة ؛ ليستدر معلومات أكثر , و قال : حتى بالأمارة اسم والدها أدهم ذهني .. صح ؟ !
- فأمسك محمد رأسه بين كفيه , و قال متخاذلاً : اسمع يا صلاح احنا أصحاب من الطفولة .. عشان خاطري ابعد عن منى هي مش نوعك دا خالص .. صدقني مش لونك نهائياُُ ..
- فضحك صلاح منتصراً , و قال : يعني اسمها منى ههههههه وقعت يا سبع الفلا .
- فخبط محمد رأسه , و هتف بحنق واضح : يعني وقعتني يا ملعون ؟ !
- يا سيدي ما تزعلش كدا أنا مش وحش للدرجة دي ، أصلها بصراحة شدتني , و سحرتني برقتها ، فسحرها لا يقاوم بصراحة يا صاحبي ..
- أنا عارف كويس أنك حاتلعب عليها نفس اللعبة إياها , و بمجرد ما توصل للي عاوزه منها هرتميها زي اللي قبلها , و قبلها . ربنا يهديك , و يكفيها شرك .
ثم انصرف صلاح , و عقله يخطط في كيفية استدراجها ليصل إلى ذلك القلب المبهم .
فوجد أنه لابد , و أن يعرف أولاً خط سيرها ليرتب ما سيفعله .
فبدأ الخطة من برج المراقبة الذي نصبه في شقة محمد ، و بالطبع دون أن يلفت انتباهه ، فقد تردد كثيراً عليه بحجج عديدة كالمذاكرة في جو مشجع أو غيرها لكن عينه كانت لها , و لشقتها بالمرصاد ، حاول تصنع الصدفة معها عدة مرات .
فتعمد أن يلتقي بها مباشرة على السلم , أو في طريقها , فيبتسم لها محيياً ؛ ليلفت انتباهها له , فكانت ترد تارة , و لا تعره اهتمامها تارة أخرى .
فبدأ يخطط لشيء أكثر جرأة ، تذكر قول محمد بأنه كان يساعدها في دراستها ، إذن فلابد , و أن دراستها نظرية مثله ، فابتسم مزهواً بذكائه ، ثم قال لنفسه :
- ماشي .. يبقى دي البداية يا صلوحة ..
وفي الصباح تبعها عندما لمحها خارجة من بيتها ، فغذ في سيره ليلحق بها ، و أخذ يتقافز بالمواصلات خلفها حتى ظن أنه قد ضلها , و أخيراً وجد الفرج ، فإذا بها تدلف بوابة كلية الآداب ، فتحقق حدثه الذي خمنه ، فتبعها مستتراً , و بالفعل نجح .
تتبعها حتى دلفت قسم علم النفس , فابتسم لنفسه قائلاً :
- ممممم .. صاحبتنا عالمة نفس , و معقدة !! هتتعبني شوية أكيد .. لكن ماشي مش معايا يا هانم .. أنا باموت في المغامرة الصعبة عموماُ ..
عاد صلاح أدراجه مكتفياً بكم المعلومات الذي حصده , و أثناء لقائه لمحمد في " الكافتيريا " جاءت فتاة , و دنت من صلاح , و همست له , فقام بسرعة مبتهجاً , فاستأذن منه ، ثم عاد لتوه يطلب مفاتيح سيارة محمد دون أن يبدي أي أسباب ، فأعطاها له ثم انصرف , و انطلق مع الفتاة ، و لم يلبث أن عاد منتشياً , ففهم محمد في الحال طبيعة المهمة التي كان صلاح بصددها , فقال له زافراً :
- هيه .. خلصت عليها هي كمان ؟ ! ! محيتها من " البلاك ليست " بتاعتك ؟ !
- رد صلاح في برود : أيوة .. و بنفس الطريقة القديمة كمان ..
- يا برودك دا يا أخي اللي هيفقع مرارتي ، أقسم بالله أن نهايتك هتكون على ايد واحدة من ضحاياك دول ، هي قلبها ينكسر من الألم والحزن , و أنت عمال تتنطط فرحة , و انتصار .. مش عارف انت ايه اخرتها معاك والله !
- فزفر محمد . ثم قال بهدوء : صلاح .. كل واحد فينا له مبدأ في حياته ماشي عليه ، لو ضاع منك , يبقى كأنك فقدت حياتك كلها ، و بقت حياتك بلا معنى ، عشان المبدأ دا دليلك في الحياة كلها ، فين بقى مبدأك دا ؟ ! هل هي الحيل اللي بتعملها ؟ ! أنت عاوزني أفكرك بالماضي ؟ و اللي حصل لك فيه يا صلاح ؟ !
- هنا خنع صلاح له ليسترضيه , و يمتص غضبه ، و كأنه قد مس جرحاً غائراً , ففضل الهروب ، فقام , و انسحب في الحال .
و عندما عاد إلى بيته تمدد صلاح في فراشه , و أخذ يفكر في الخطوة التالية مع فريسته المعقدة الجديدة ، وعندها واتته فكرة ما , تبسم منها ، فهي فكرة جريئة , و لكنها هي المفتاح .
نهـــــــــاية الفصـــــــــــل الثـــــــاني
===========
الفصـــل الثالــــث
======
و في اليوم التالي , و بعد أن علم برنامجها اليومي ، ذهب إلى كليتها ، و اتجه صوب المكتبة ، و جلس يتظاهر بالقراءة , و يتصفح بعض الكتب ، فلعل و عسى أن تأتي , و تستعير كتاباً ما ..
و بالفعل صدق حدسه ، فبعد صبرٍ ناهز الساعة و النصف ، و قد تململ في جلسته , و كاد أمله يلج دروب اليأس المظلمة ، و جدها تهل أخيراً ، مشرقة الوجه ساحرة الطلعة مليحة الابتسامة .
و ما أن وقعت عيناها عليه حتى قام , و تقدم منها يحييها بابتسامته العريضة ، فحيته بابتسامة بسيطة ، فقال في رقة بالغة :
- أهلاً و سهلاً ..
ثم تصنع الانشغال عنها بكتابه لكن عيناه معلقة بها لم تبرحاها ، و قد التقت عيونهما عدة مرات .
و عندما قامت للانصراف هبّ في إثرها يسرع في طريقه قائلاً لنفسه :
- و دلوقت أضرب الحديد , و هو سخن ..
- فلحق بها , و هتف : آنسة منى ..
- فالتفتت وراءها ، فالفته مبتسماً , و قال : فاكراني ؟! أنا صاحب محمد .. جارك
- فأومأت برأسها مبتسمة , و قالت : آه .. أهلاً ..
- فارتبك صوته قليلاً ثم قال : دي .. دي صدفة سعيدة خالص أشوفك هنا .. كنت منتظر صديق لي و ..
- فقاطعته : و طبعا ما جاش !!
- فتجهم قليلاً لإجابتها المقتضبة ، فارتج عليه القول , و كأن نظراتها سهاماً من النيران تنفذ إلى أعماقه فتفضحه ، فقال متداركاً :
- هو .. هو أنا معطلك دلوقت ؟ ! فردت في هدوء :
- لا .. أبداً
- أصلي لقيتك بتقري كتاب في علم النفس ، فاستنتجت إنك إما طالبة بنفس القسم ، و إما هاوية زيي ، رغم إني طالب في حقوق إلا إني باحب علم النفس جداً .. ثم عقب :
- بصراحة بتساعدني في فهم أعماق النفس البشرية .. و هي صدفة سعيدة قوي قوي أشوفك النهاردة .
- ردت في عذوبة : شكراً لك ..
- فرفع كتفيه من ردودها تلك ، و قال لنفسه : يظهر إن الزبونة دي مش زي اللي فاتوا , و لا ايه !!
- فقال ليتخلص مما هو فيه من حرج : إنتي مروحة البيت ؟
- آه فعلاً .. دا وقت رجوعي يا .. فرد في لهفة :
- صلاح .. اسمي صلاح البسيوني .. الكلام أخدني , و نسيت أعرفك بنفسي ، طيب أنا رايح بيت محمد دلوقت عشان أرجع له عربيته ، تحبي أوصلك هناك ؟ خلاص بقى بقينا معارف , و أصحاب ، مش كدا ؟ و على الأقل هارحمك من زحمة المواصلات . فردت في همس عذب :
- لا .. شكراً لذوقك .. أنا مستنية صاحبتي ، هي كل يوم بتروح معايا في طريقي .. اتفضل أنت .
- فاربد وجهه لردها طلبه ، و قال لنفسه : آه .. يعني كمان هي مش من اللي بيحبوا العربيات !! أدخلها منين المعقدة دي ؟ !
- ثم قال لها ليخفي ما ألم به : آه .. بالمناسبة ، هو انتي في سنة كم يا آنسة منى ؟
- في السنة النهائية .
- يا محاسن الصدف ، دا ايه الحظ الحلو دا ، أنا كمان في آخر سنة لي .
وعندئذ عنت لهما صديقتها ، فاستأذن منها في هدوء , و انصرف ، وأخذ يضرب أخماساً في أسداس قائلاً لنفسه :
- دا ايه النوع العجيب دا !! دي مش بتتكلم تقريباً ، كلامها كله كلمة , و نص ، ممممم على أي حال الحمد لله لحد كدا ، قطعنا شوط برضه كويس ، و رجعت من الغنيمة بالإياب !
و في المساء توجه إلى مكتبة ليكمل ما خططه ، فاشترى بعض كتب علم النفس كان قد سمعها تسأل عنها ، و في الصباح ذهب إليها ليكمل ما عوله ، فجاءت , و حياها مبتسماً , و أشار إليها بالكتب مازحاً :
- طبعاً النهاردة مش صدفه هههههه على فكرة أنا سمعتك امبارح بتسألي عن كتب معينة , و لقيت لك شوية منها ، اتفضلي شوفيهم كدا ؟ يا رب يعجبوكي , و اقبليهم هدية بسيطة مني , و ما تكسفيش ايدي .
- فنظرت فيهم ثم قالت رافعة حاجبيها : دي كتب قيمة خالص فعلاً ، لكن ازاي عرفت توصل لهم ؟!! عموماً أنا شاكرة لك خالص خالص .
- فضحك قائلاً لنفسه : أخيراً أبو الهول نطق .. ثم أفاق , و عقب : أيوة أنا لي مصادري طبعاً ، و أنا تحت أمرك في أي طلب تطلبيه ، ايه رأيك نقعد في " الكافيتريا " , و تشوفيهم براحتك ؟
- فابتسمت بإحراج واضح , و قالت : آه مافيش مانع .. لكن بسرعة من فضلك عشان عندي محاضرات مهمة قوي النهاردة .
- و في " الكافيتريا " وجد صلاح الفرصة مواتية ليمارس فنونه الحوارية ؛ ليتقرب منها أكثر و أكثر ، فقال متظاهراً بالجد :
- ما قلتليش ليه قسم علم النفس بالذات اخترتيه رغم إنه الظاهر عنه إنه معقد شويتين ؟ !
- لأني بصراحة مغرمة بدراسة , و كشف الشخصيات , و النماذج اللي بقابلها في حياتي ، و اعرف مفاتيحها , و عقدها ، و أطبق عليها اللي بادرسه , و أحللها .
- و يا ترى التجارب اللي بيمر الإنسان بها في حياته بتأثر عليه جذرياً , و لا سطحياً ؟
- طبعاً مش بتمر عليه مرور الكرام كدا ، لازم بتسيب أثر عليه , و على نفسيته حسب خطورتها .
- ممممم .. ماشي ، طيب ممكن أسألك سؤال شخصي بعيد شوية عن تخصصك , و عن علم النفس ؟
- اتفضل اسأل ..
- فتظاهر بالتفكير قليلاً ثم قال في دهشة : ليه عايشة لوحدك ؟ ! حتى في الكلية وحيدة برضه ! !
- فاطرقت برهة ثم ردت : شخصيتي منطوية شوية ، أصحابي قليلين خالص , و الوحدة خير من جليس السوء طبعاً ، بص شوف البنات اللي حوالينا هنا مثلاً معظمهم دماغهم فاضية ، سطحيين بيهتموا بالمكياج , و الموديلات أكتر من أي حاجة في الدنيا ، و كلامهم نهش في أخبار الناس ، و تفضل حلقة النميمة منصوبة كدا لحد ما يرجعوا بيوتهم .
- حدج صلاح في وجهها , و قال متعجباً : صحيح دراستك أثرت عليكِ خالص ههههه ، أنا ما صادفتش بنت في جرأتك , و رأيك دا !!
- فعلقت مبتسمة : صوابعك مش زي بعضها يا أستاذ صلاح .
- فقال راجياً في صوت حنون : أرجوكي تناديني بصلاح بس ، الألقاب دي بتحسسني إننا عواجيز ، بلاش تكلفة احنا خلاص بقى بينا عيش , و كتب , و لا ايه ؟
- فابتسمت قائلة : ماشي .. هارجع لك الكتب بعد ما أخلصها .
فأومأ لها موافقاً ، ثم انصرفا , و هو يكان يطير فرحاً بما حققه من نصر في ذلك اللقاء .
نهــــاية الفصــــل الثالـــــث
=======
الفصــــل الرابــــع
======
اتجهت منى لشقة محمد الذي ابتسم لها عندما انفرج الباب عن وجهها الصبوح , فدعاها للدخول إلى الصالون .
و هناك سألها عن حالها , و دراستها ، و طلب من أمه إعداد مرطباً لهما ، ثم سألها :
- هيه .. خير .. طمنيني في أي صعوبات قابلتك في الدراسة الفترة اللي فاتت ؟ عاوزة تستعيني بي , و لا بمكتبتي ؟ كلها تحت أمرك .
- فردت في امتنان : لا شكراً جزيلاً .. مانحرمش منك ، بس كنت عاوزة استعين بمعجمك فيه شوية مصطلحات صعبة نوعاً ما عليّ .
- طيب يا ستي ماشي فين هي المصطلحات دي ؟
- في الكتب دي اللي جبها لي صاحبك ، صلاح البسيوني النهاردة الصبح .
- فتجهم وجهه قائلاً : هه !! صلاح جابلك الكتب دي ؟! غريبة .. ماقليش حاجة يعني !! ثم قال لنفسه في غيظ :
- ممممم .. فهمت دلوقت سر اهتمامه اليومين دول بعلم النفس .. ثم قال لها :
- يارب بس مايكونش ضايقك بأي تصرف .
- لا أبداً و الله بالعكس ، كان في منتهى الذوق .. لكن ليه السؤال الغريب دا ؟ !!
- لا أبداً .. و يا ترى وصلتم لحد فين ؟ !
- ردت باستغراب , و سألت : هو فيه مشكلة , و لا ايه ؟ هو كان مداري عليك حاجة ؟ !
- رد بتلعثم واضح : هه .. لا أبداً .. لازم إن الظروف ما سمحتش عشان يقولي ..
فابتسمت في غير راحة ثم انهمكا في البحث عن الكلمات الصعبة ، ثم ذهبت إلى شقتها , و هي قلقة من جراء ما أبداه محمد ، فشعرت بأن هناك سراً يحدق بها .
أما محمد فقد كان منتظراً صلاح يغلي كالقدر الكاتم مربد الوجه متشنج الملامح يروح , و يغدو في حجرته , و كأنه ينوي افتراسه , و هو يقول لنفسه :
- صلاح كان في منتهى الرقة !! مممم يبقى دا الهدوء الذي يسبق العاصفة طبعاً ..
عندئذ طرق الباب ، و ما أن انفرج عن وجه صلاح الباش حتى جذبه من تلابيبه , و قذف به إلى داخل حجرته .. و دارت المشاحنة .
- اسمع يا صلاح أفندي .. لحد هنا , و فاض بي الكيل فعلاً منك .. أنت كدا جبت القشة التي قصمت ظهر البعير ، فصداقتنا كوم , و منى جارتي دي كوم تاني .
- ثم أردف : سبق و حذرتك و وعدتني وخلفت وعدك لي ، عشان كدا من حقي أني أخد أي قرار مش في صالح صداقتنا اللي بتحطمها بعبطك دا، و ترمي تراب غباءك عليها عشان تضيع ملامحها خالص .
- فذهل صلاح من هذا الهجوم المباغت , و أخذ يهدئ من سطوة غضبه العارم ..
- ايه .. حيلك حيلك بالراحة شوية ما تنفعلش كدا بدل ما يطق لك عرق ولا مصيبة يا صاحبي ، أنا والله محتار في أمرك ، هو أنت بتحبها , و مداري عني ؟ و التهديد دا ليه بقى ؟ !
- لا يا سيدي .. أنا يهمني أمرها بس هي أكتر من أخت بالنسبة لي ، و بهددك عشان أنت بتعكر صداقتنا بأفعالك الغبية دي .
- هي صداقتنا بقالها قد ايه اللي ناوي تفرط فيها يا محمد ؟ !
- بدأت ثورته تهدأ قليلا , و قال : من طفولتنا يا صلاح .. اسمعني كويس .. أنت عارف إني بحبك , و باحترمك زي أخويا ، لكن لكل شيء حدود ، و مش عاوزك تكسر الصداقة دي بعنادك دا ، يبقى أسكت على كل دا دلوقت ؟ !
فانصاع صلاح له ليهدئ من ثورته ، فهو يعلم أنه ذو قلب أنقى من الحليب ، و لا يحمل كرها ، لكنه في نفس الوقت تنبه إلى خطره على مخططه ، لذا كان من الواجب التخلص منه , أو على الأقل باشغاله عنه ، لكن كيف .. كيف ؟ !!
أخذ عقله يدور في سرعة شيطانية ، ثم هتف فجأة في مكر قائلاً :
- قول بقى يا محمد يا نمس .. ايه حكاية البنت اللي شفتها معاك أمبارح ؟ هه ؟ دي سألتني عنك النهاردة يا معلم ..
- هه ؟ بنت ؟ ! أي بنت ؟ !
- فقال صلاح متخابثاً : البنت السمرا اللي شعرها الأسود الطويل دا ، و العيون الواسعة .
- آه قصدك سهير ، و هي عاوزه مني ايه يا ترى ؟ !!
- رد متظاهراً بالبراءة : مش عارف الصراحة ، هي سألتني بحرارة عنك ، أنت مخبي حاجة عن صاحبك , و حبيبك , و لا ايه ؟ !
- هه ؟ لا ابداً والله .. مجرد صداقة , أو زمالة بريئة .. حاجة كدا مش موجودة في قاموسك يا صاحبي .
- رد متظاهراً بالاهتمام : محمد يا صاحبي : نصيحتي لك بأنك ما تفوتش الفرصة على نفسك ، هي على ما يبدو إنها يعني .. ميالة لك شوية .
- ثم أردف : ليه مش مهتم بها ؟ !
و كان كلام صلاح قد صادف هوىً في نفس محمد ، بالفعل قد لفتت سهير نظره بملامحها الحسناء المليحة ، و قوامها الرشيق , و شعرها المهدل على ظهرها كإكليل يتوجها ، إلى جانب خفة ظلها ، و رشاقة كلماتها الرقيقة , و سعة أفقها .
- فأفاق على صوت صلاح هاتفاً : رحت فين يا صاحبي ؟ ! نحن هنا ..
- هه ؟ بتقول ايه ؟ !
- رد صلاح ساخراً : لا ابداً كنت باتكلم عن مشكلة الشرق الأوسط ، لا دا أنت مشغول عني خالص خالص ! !
فأخذا يضحكان سوياً ..
ثم همّ صلاح بالانصراف قائلاً له بابتسامته ذات المغزى :
- أراك أمس يا صاحبي ..
نهـــــاية الفصـــــل الرابـــــع
========
الفصــــل الخامـــس
========
بعد ذلك ذهب صلاح إلى منى في كليتها بحجة السؤال عن مدى نفع الكتب التي جلبها إليها .
- فشكرته ممتنة له , فقال لها في تردد : أرجو يعني إنك تقبلي .. إني أوصلك النهاردة بعد الكلية .. معايا عربية محمد .. دا طبعا من دواعي سروري ..
- فكرت قليلاً ، ثم ردت في ود : ما عنديش مانع ، على أي حال صاحبتي لسه عندها محاضرات .
- وفي الطريق بدأ صلاح الحديث بحرية شيئاً فشيئاً , فشرد قليلاً قائلاً لنفسه : هانت .. فاضل على الحلو دقة .
- وكانت تقول هي لنفسها : لازم استدرجه هو عاوز مني إيه .. لازم أعرف .
- ثم قال لها : هناك فيه كازينو على النيل ، ايه رأيك نأكل آيس كريم على السريع كدا ؟ دا مكان رائع , وهيعجبك .
- صمتت قليلاً , ثم ردت في هدوء : بشرط .. ما نتأخرش ؛ لأني ما اتعدوتش أتأخر بره .
- رد في ضحكة جذابة , و انحناءة لطيفة : تحت أمرك ست هانم .
- عقبت مطرقة برأسها : على فكرة .. دي أول مرة أخرج فيها مع شاب غريب من ساعة ما جيت من بره .
- قال في تودد واضح ، ناظراً في أعماق عينيها : دا كرم عظيم , و الشرف لي والله . أرجو ما أكنش متطفل في سؤالي ، ليه عايشة وحدك كل المدة دي بعد وفاة والدك , و سفر مامتك ؟ !
- هنا أدركت أنه قد جمع قدر كبير من المعلومات عنها ، ثم نظرت للنيل طويلاً شاردة قبل بأن تجيب قائلة : لأن والدتي ما حبتش البقاء في مصر بعد وفاة والدي .. مالناش حد فيها .. فضلت تروح عند أهلها هناك في ألمانيا لحد ما اكمل دراستي , و أحصلها .. هه , و أنت عايش مع أسرتك برضه ؟
- فارتبك , و تلعثم برهة قبل أن يرد أخيراً مطرق الرأس : هه .. أيوة .. لا .. أنا والدي والدتي منفصلين من فترة طويلة ، والدي رجل أعمال زي والدك بالضبط .. مش كدا ؟! شفتي بقى الصدفة ؟
- فقالت في تأسي بالغ : أنا آسفة .. قلبت عليك المواجع .
- فقال في هدوء مصطنع : لا .. أبداً .. ما نسيتش عشان أفتكر .. و على أية حال , و لا يهمك ، خلاص بقينا أصحاب بقى مش كدا ؟ ومن حقك نعرف بعض كويس .
- ثم أردف قائلاً ليغير دفة الحديث للاتجاه الذي ينشده : و يا ترى بقى .. مين هو مطربك المفضل اللي بتسمعيه سواء في أفراحك في أحزانك ؟
- الوحيد اللي بأشعر به فعلاً بيمس قلبي قوي , و يدخل جوا كياني هو صوت عبد الحليم حافظ ، و أنت ؟
- معقول ؟!! أنتي اخترتي مطرب ما يختلفش عليه اتنين ، هو برضه مطربي المفضل ، شفتي الصدف الحلوة بقى ؟ !
- ثم أردف بحذر مسلطاً عينه عليها : أظن بيخليكي تعيشي الحب في أجمل صورة مش كدا ؟ !
- حتى , و إن ما عيشتوش لكن صوته بيخليني أصدقه فعلاً ، و يعبر عن مشاعري سواء سعيدة أو حزينة .
- سبحان الله زيي بالضبط .
- أنا ما مرتش بتجربة تذكر ، و قلبي ما انفتحش لبنت خالص حتى الأسبوع اللي فات بس .
- ثم ركز نظره على وجهها ؛ ليرقب أثر كلماته ؛ فنظرت له في دهشة , و لم تعقب , فقال ليرفع من حرجه : أتمنى ما أكنش أزعجتك بكلامي ورغيي دا .
- لا .. أبداً ، من حق أي إنسان أنه يعبر عن مشاعره , و أحساسيه .
- مش عارف ليه فتحت لك قلبي ، و طلعت كدا أسراره ما قلتهاش لغيرك أبداً .
- دا من دواعي سروري إنك تعتبرني صديقة تقولها مشاعرك , و تفضفض بها لي .
- فقال بصوت خافت : و يمكن كمان أكتر من صديقة .
فقام بسرعة ؛ ليواري نفسه من سهام نظراتها النافذة , و المسددة إليه ؛ فتفضح نواياه ، فقد اندهشت من جرأته تلك ، فقام بحجة دفع قيمة الآيس كريم ، ثم دعاها للتريض إلى جوار دفة النيل , و هي تلاحظ حركاته , و سكناته .
ثم وقف أمام سياج الكورنيش يتأملان النيل , و أثره في النفوس , فحاول استثمار الموقف ، فأمسك يدها عفوياً ؛ ليناولها وردة ؛ فارتبكت ، و سحبتها , و قالت في عتاب :
- أعتقدت إنك مستعجل قوي يا صلاح !! مش كدا ؟!
- فابتسم قائلاً : بالمناسبة بكرة الجمعة , و عازمك على الغدا في أي مكان تحبيه .. إيه رأيك ؟
- لا .. متأسفة ، أنا مشغولة في أبحاثي الكتيرة الأيام دي ، و كمان أنا أتأخرت خالص دلوقت .. يالله بينا .
ثم ولته ظهرها , فسدد إليها نظرة غيظ ، و قد اربد وجهه غضباً , فقال لنفسه :
- طيب .. ماشي .. الصبر جميل .. بكرة التفاحة تستوي لوحدها , و تقع في إيدي .
ثم أوصلها ، و أخبرها بأنه سيمر عليها في غضون الأسبوع المقبل ؛ ليسترد الكتب منها , فهي حجة جيدة بالنسبة له , و صعد إلى محمد بعدها ليرى آخر خطته التي بدأها ليقصيه عن طريقه , فسأله بعدما دلف غرفته :
- هيه .. إيه أخبارك يا بطل ؟! قابلت سهير ؟
- رد محمد متنهداً من أعماقه : لا .. ما قدرتش بصراحة كل ما أنوي أتكلم ، ألاقي نفسي أرجع تاني ، رغم إني متعود أتكلم معاها عادي ، مش عارف إيه اللي حصل لي .
- دا كسوفك الأزلي يا صاحبي .. طيب ، هي شافتك على الأقل عشان تكلمك ؟!
- رد متخاذلاً : ما ظهرتش نفسي قدامها خالص ، هي مشت , و عقلي مشغول بها خالص ، يا ترى هي كانت عاوزة مني إيه ؟ ! !
- أنت يا محمد شخصية محبوبة , و لطيفة ، و أي بنت تتمنى منك و لو كلمة لولا كسوفك دا , و قلة تجاربك طبعاً اللي مخلياك لسه خام وساذج .
- دا عشان أنا صادق مع نفسي يعني , و مع غيري بقيت خام , و ساذج ؟! أنا مش بألعب بمشاعر الغير ، و لا بادخل نفسي في علاقات مالهاش فايدة .
- فابتسم صلاح مشيحاً بيده : أنت زي القطر يا صاحبي ماشي في اتجاه واحد بس لقدام ، أما أنا بقى مرن أدور , و ألف ، أهجم , و اهرب .
- لكن دي طريقتي في حياتي , و مبادئي هي اللي خلت لحياتي معنى .
- فاستأذن منه صلاح قائلاً : ماشي ماشي ، حانشوف مين فينا اللي صح يا صاحبي ، يالله أراك أمس .
- ثم خرج من عنده يضمر شيئاً .. شيء مريع .. لكن ما هو ؟ !
نهـــــاية الفصـــل الخامــس
=======
الفصـــل الســـادس
=========
ما كاد يصل صلاح بيته مبكراً لتوه , حتى انتظر نزول إحدى جاراته المراهقات ، واللاتي ألف التلطف إليهن .
و عند نزول إحداهن أخذ يسامرها ، أغدق عليها النكات , و وعدها بمساعدتها في بعض مشكلات الفيس بوك لديها لو نفذت له ما يريده ، و فعلاً حدث الآتي :
- جاء صوت محمد عبر الهاتف الارضي : ألو .. مين معايا ؟
- الصوت بحنان بالغ : أنا سهير زميلتك .. أنت مش عارف صوتي لحد دلوقت ، و لا إيه ؟! أنا ما شفتكش النهاردة ؛ فقلت أطمن عليك .
- هه ؟ ! قلقتي عليّ يا سهير بجد ؟ ! !
- الصوت بجذع واضح : مع السلامة دلوقت الباب بيخبط معلش ..
- جاء صوت صلاح للفتاة قلقاً : هيه .. شك في صوتك ؟
- جاء الرد واثقاً : عيب عليك ، دا بصم بالعشرة إني هي .
و في المساء طوى ورقة بعناية داخل مظروف منقوش , و دسها في جيبه ، فقد كان لزاماً عليه أن يكمل ما بدأه ، فذهب لمحمد ، الذي أخبره بما كان في المكالمة ، فقال صلاح مهتماً :
- عال عال , و ناوي تعمل إيه بقى يا بطل ؟
- رد محمد في هدوء شديد , و حيرة بالغة : مش عارف والله .. عقلي اتشلّ .. رغم دا كله إني مش هاقدر أفاتحها بمشاعري .. دا النوم طار من عيني من كتر التفكير فيها .. شوف أبيات الشعر اللي كتبتها لها من قلبي ؟ أنا مشتاق قوي أسمعها لها .. هيه إيه رأيك يا وزيري ؟
مطّ صلاح شفتيه حيرة ثم قال :
- رأيي يا صاحبي , إما تكلمها تدريجياً عن مشاعرك ، و تتقل في إظهار عواطفك لها ، و إما تنساها خالص .
- أنساها إزاي ؟ ! ! .. دي ملت قلبي , و روحي .. دي هي النوع اللي بدور عليه طول عمري .. أنت نسيت كلامك لي زمان إن الرجل القوي هو اللي البنت تروح وراه .
- لكني باحذرك نتيجة سكوتك دا يا محمد ، ابدأ و لو بالتلميح ، و لو بنظرة فابتسامة حتى على الأقل .
بعدها انصرف صلاح , و أثناء هبوطه الدرج ، غافل صديقه محمد , و زجّ بالمظروف تحت باب شقة منى .
و توالت الأحداث ..
كانت منى في تلك الآونة تستذكر دروسها شاردة العين , و اللب بذلك الطارق الجديد ، فلم تمر بمثل تلك التجربة من قبل ، لذا كانت تستخدم عقلها كثيراً ، لكن رغم هذا كله لم تستطع التخلص من القلق الذي يعتريها من جهته ، فمهما كان مازالت علاقتهما حديثة العهد .
حاولت إزاحة صورته عن صفحة ذهنها ، فأغلقت كتابها , و خرجت للصالة لمشاهدة التلفاز علّها تسهو قليلاً ، حينئذ عثرت على الرسالة تحت عتبة شقتها ، فاندهشت , و أخذت تفضّ الرسالة في بطء كمن يتعامل مع لغم .
فحدجت في كلماتها حرفاً حرفاً ..
" كلماتي يظل الخجل منها لما هتقريها بالطريقة دي ، لكن ما باليد حيلة . مش هقدر أوصف لك مشاعري نحيتك أحسن من قلمي اللي بيبكي على حال صاحبه ، و قلبه اللي بيتقطع شوق لكي ، مش عارف إزاي بالسرعة دي كان لك مفعول السحر في حياتي الفاضية من غيرك ، كلمات الغزل مهما كانت جميلة مش هتقدر توصل لجزء من واقع حسنك , و جمالك ، ما أظنش الشمس بتشرق إلا بإشراقة وشك المنور ، و القمر بيبص لحسنك يوطي راسه مكسوف منه ، دي فينوس نفسها تسجد قدام فتنتك دي في معبد جمالك ، ما يجرؤش مخلوق إنه ينافسك في رقتك , و حسنك ، إنتي اتوجت بجدارة على عرش قلبي عشان تكوني مليكته لكي الأمر , و النهي فيه يا صاحبة الجلالة . أنتي الحب , و الحب هو الحياة ، فأنتي الحياة .. أنتي الحياة يا حبيبتي ..
توقيع القلب المعذب بحبك
صــــــــــــلاح
كانت لتلك الكلمات مفعول السحر على وجدان , و عقل منى ، فقد سلبت وعيها , و تفكيرها الذي دوماً تباهت برزانته عن بقية أقرانها ، فوجدت نفسها في عالم الخيال المليء بالعواطف الفياضة ، و قد توجت ملكة لا يضاهيها مخلوق ، ثم جعلت تقرأها مرات , و مرات حتى حفظتها ، فقد أسرت قلبها , و شلّت تمرد ذلك العقل , و أرهقت حواسها , و خدرت قلقها المزمن .
و في الكلية جعلت تدور نظرها في ساعتها في قلق ، تبحث عن ضالتها كمن يترقب حدثاً هاماً .
و قد ظهر القلق على وجهها ..
فقد اختفى صلاح أياماً ، و هي من بعد خطابه كالنار تستعر شوقاً لرؤيته .
أما هو فقد فضل الاختفاء فترة ليأخذ الخطاب مفعوله ، فيجدها مستسلمة له تماماً دون مقاومة .
و في اليوم التالي ، عول الذهاب إليها ..
و كانت في عضون تلك الفترة تسأل نفسها عما جرى لها ! ! فلم تكن مسلوبة الإرادة هكذا من قبل ! !
فكرت في الاتصال به مراراً , فلم تجد رقماً لهاتفه ، فكرت في سؤال محمد فتخاذلت أمام حيائها منه .
و في أثناء انتظارها خارج قاعة المحاضرات تتحدث مع صديقتها ، فإذا به يهلّ من بعيد ، و قد عنت لها إشراقة وجهه بابتسامته العريضة ، فتملأ الدنيا سعادة غامرة من حولها .
فإذا بها تقوم لاستقباله ، ثم شيء ما من فلول العقل جذبها لتجلس ثانيةً حتى يأتي معتذراً .
و عندما اقترب لم تستطع صبراً ، فقامت له مستأذنة صديقتها , و قد ابتسمت ابتسامة عريضة ذات مغزى .
نظرت منى بعينيه مباشرة صامتة تنتظر تعليقه ..
فارتبك , و أطرق راسه كالطفل المذنب ..
- ثم قال أخيراً : يا رب تكوني استفدتي من الكتب .. هيه مالك بتبصي لي كدا ليه ؟ ! ! وشي فيه حاجة غلط النهاردة , و لا هدومي ملخبطة ؟ ! !
- صمتت فترة , ثم قالت في هدوء أخيراً : أبداً .. منتظرة بس لحد ما تخلص كل اللي عندك .. ليه أتأخرت كل الفترة اللي فاتت ؟ ! قصدي ليه ما جتش تاخد كتبك يعني ؟ !
- هه .. آه .. كنت مشغول شوية بس .. و قلت أسيب لك فرصة تستفيدي من الكتب ..
- قالت محدجة فيه : مشغول , و لا خايف من رد فعلي على رسالتك ؟ ؟
- هو .. هو .. وصلتك رسالتي بجد ؟ ! أنا .. آسف أصلك ما سبتيش لي فرصة عشان أعبر لك عن مشاعري نحيتك .. ففضلت قلمي هو اللي يتكلم .. يمكن تديله فرصة عشان تعرفي حقيقة شعوري ..
- ثم أردف : ممكن نتكلم في مكان هادي عن هنا ؟ ! إيه رأيك في الكازينو اللي كنا فيه ؟
- فأومأت موافقة .. ثم اتجها صوبه يتحدثان بين لوم , و تعليل ..
- قال لها أثناء تناول المرطبات : صدقيني يا منى .. الحب ما عرفش طريقه لقلبي إلا لما ظهرتي في حياتي .. الفراغ هرب من حياتي ..
- تقصد يعني إن ما كنش فيه مكان لبنت تانية في حياتك ؟ !
- رد بلهجة الواثق : طبعاً .. حتى اسألي قلبي يقولك الحقيقة .. ما بقاش مكان في قلبي غير لكي بس .
فابتسمت , و قد تلاقت العيون , و استقرتا طويلاً يتعمق كل منهما في قلب الآخر ؛ ليعرف مكنونه ..
ثم انصرفا ..
نهـــاية الفصل الســـادس
======
الفصــــل الســــابع
======
بدأ محمد يتغول أكثر , و أكثر في درب حبه الجديد الطارئ على قلبه , و الذي جعله يعيش أزهى أيامه , و أرق أحلامه .
فبدأ في مراقبة خطوات سهير , و حركاتها , و سكناتها من دون أن تشعر به ، فأخذ يركز ناظريه عليها في " الكافيتريا " مع أصدقائها , و حتى في المحاضرات ، و كلما تلاقت العيون ابتسمت له , فيبادلها الابتسام , و أحياناً الإيماء , و أحياناً أخرى التلويح بيده في هدوء ؛ ظناً منه أنها تبادله المشاعر , و تتعمد مشاغلته .
فكان يخط بعض أبيات الشعر على أوراق محاضراته , و هو ينظر إليها لا يحرك عينيه عنها بعدما يختار مكاناً يستطيع مراقبتها دون أن تشعر ، يخبرها في أبياته تلك ما عجز لسانه عن الفصح , أو البوح به لها .
و بدأ في رسم لوحة لها غاية في الرقة يصهر فيها كل معاني الحب التي يعيشها , و التي تصف تتيمه بها ، فكان يرسم ملامحها كما يراها قلبه و ليس مجرد عينه ، و كان ينوي أن يضعها في غرفته لتكون أمام عينيه دوماً لا تبارحه .
كان يتمنى أن يتكلم معها كما كان يتكلم .. كان يتمنى أن يحكي , و يثرثر كمان كان كنه عجز الآن .. شيء عجيب و غريب أمر هذا الحب ..
- فقال لنفسه كثيراً : طيب و بعدين ؟ ! ! أعمل إيه ؟ ! ! لا أنا عارف أكلمها .. و لا عارف أفضفض لها عن اللي جوا قلبي نحيتها .. أكلم صلاح ؟ ؟ أشرح له اللي بيحصل معايا ؟ لا .. أنا خايف يسخر مني , و من مشاعري زي عوايده .. و يفضل يعتت في جتتي .. أنا كدا حاتجنن فعلاً .. كل ما أحاول أكلمها ألاقي لساني اتخرس .. كل ما أحاول و لو بنظرة أبين لها اللي حاصل لقلبي أتكسف , و أدير عيني .. آه .. يظهر صلاح كان معاه حق !! قلة الخبرة في تجارب الحب هي اللي عملت معايا كدا .. طيب دي هي اللي اتصلت بي من كم يوم .. ليه مش بتتكلم تاني معايا و لا بتتصل ؟ ! ! أفاتحها عن المكالمة ؟ آه ياااني أنا خلاااااص دماغي اتشلت فعلاً مش عارف أفكر صح و لا إزاي ..
ثم تحرك ببطء صوب النافذة , فأزاح الستار ليرى ضوء القمر جلياً , فابتسم له , و قال :
- يظهر مافيش غير الحل اللي في بالي .. هو اللي حايخلصني من النار دي .. مش شايف حل تاني غيره ..
نهايـــة الفصـــل السابع
========
الفصـــــل الثـــامــــن
======
بعد عدة لقاءات جمعت بين صلاح , و منى ، و أثناء سيرهما بحذاء الكورنيش متشابكي الأيدي ، يعلوهما تاج الحب تكلله زهور البهجة , وترصعه المودة , و الهيام .
توقفا قليلاً تحت شجرة وارفة الظلال ، ثم أخرج لها لفافة صغيرة من ثنايا جيبه مزركشة تبدو لها كهدية راقية المظهر .
فإذا بها تميمة الحب الفرعونية ، ففوجئت بها , و طارت سعادة , فعلقها في رقبتها الناصعة في الحال .
أما هو فقد كان ثملاً من تجرع من كؤوس الهوى المعربدة .
- فقالت في دلال لذيذ : احنا ما اتسرعناش في علاقتنا يا صلاح ؟ ؟
- فابتسم في أمسك براحتيها قائلاً : دا القلق يا حبيبتي اللي يسبق أي علاقة جديدة ، دا لابد منه عشان تنجح أي علاقة .
- فترددت في قولها : لكن .. عقلي يا صلاح ..
- فقاطعها واضعاً كفه على فمها النضيد : ما تحكميش عقلك لما يحكم قلبك ، و لا العكس ، كل واحد له اختصاصه . القلب , و الحب وجهان لعملة واحدة ، من نفس الجذر .. شخصيتك .. ما يطغاش حد على التاني عشان ما يحكمش حياتك أو يبوظها .
حينئذ عنت لهما فتاة و قد اقتربت منهما تغذ في خطاها صوبهما ، فما أن رآها صلاح حتى اربد وجهه , و ارتبك على الفور ، فطلب من منى في الحال أن يبرحا مكانهما ، فما كادا ينصرفان حتى نادته الفتاة باسمه .. فالتفتت منى صوبها مندهشة قائلة له :
- فيه حد بيناديك يا صلاح !!
فالتفت تجاه الصوت بعدما أدرك تماماً أنه لا مناص من المواجهة الحامية ..
- قالت الفتاة له في حنق بالغ : ممكن بقى يا أستاذ صلاح ، أقصد يا عسكري صلاح تديلي باقي صوري , و حاجاتي ؟
فوجد أنه إن أنكر , فستفضحه أكثر , و تتفوه بما لا يصح سماعه لذا كان لزاماً عليه أن يجاريها بصوت هامس حتى لا ينكشف أمره كليةً أمام منى .
فأخذها مبتعداً ؛ ليمتص غضبها ببعض الكلمات , فيسترضيها ، فإذا بها تهتف ساخرة :
- آه .. فهمت .. أنت مكسوف من حاجة ؟ ! يا كذاب يا غشاش ! ! و يا ترى اترفدت من الجيش و لا استقلت منه ؟ !
ثم اتجهت فاحصة منى من أول شعرها , و حتى أخمص قدميها ثم علقت ساخرة :
- مممممم .. أنتِ بقى الصيد الجديد مش كدا ؟ ! لا ذوقه حلو المرة دي قوي قوي !! عرف ازاي يختار فعلاً !!
هنا تدخل صلاح , فجذبها من ذراعها في قسوة بالغة , و هتف بها وسط ذهول , و جذع منى مما يجري أمام ناظريها , و لا تصدقه , و كأنه كابوس مخيف ..
- هنا هتف صلاح بالفتاة : غوري من وشي دلوقت في ستين داهية أحسن لك .. كفاية غباوة يا مجنونة !!
- و هنا وجدت الفتاة الفرصة سانحة أمامها لكي تنتقم لكرامتها , فقالت لمنى : يا هانم .. أنا اللي سبقتك في قايمته السودا .. و كلها أيام يوصل لغرضه منك , و بعدها يرميكِ زي الزبالة , أو أي حاجة مالهاش قيمة ، و هايتلذذ بتعذيبك قدامه و بعدها يخترع في الكدب عشان يخلص منكِ نهائياً ...
- و هنا ثار جنونه , و قد استشاط غضباً ، فدفعها بعيداً , فقال , و قد انفجر مرجل غضبه : قلت لكِ ابعدي يا متخلفة ، والله لأخليكي تندمي على كل دا ..
فتقدم ليفتك بها لولا تدخل منى بينهما بجسدها ؛ لتحميها من بطش ثورته ثم تأبطتها , و هدأت من روعها ، و أوقفت لها سيارة أجرة في الحال ، ثم اتجهت صوب صلاح الذي تراجع أمام نظرة الغضب الشعواء التي تتطاير في عينيها .
فتخطته , و لم تنبس ببنت شفة ، فتبعها محاولاً إصلاح ما حدث , و لكن دون جدوى ، فلم تعره أي اهتمام ، فقد غشيها صوت الفتاة , و منظر دموعها , و كلماتها الحارقة ، كانت لا تتصور صلاح يتحول هكذا من الوداعة , و الرقة المتناهية التي كان عليها إلى تلك الوحشية الضارية , و دون أي شفقة .
إذن فقد خدعها , و نجح في تخدير عقلها , و حسها , فاغرورقت عينها بالعبرات , و تسللت من فوق وجنتيها كحبات الندى فوق وريقات الزهر اليانعة .
أخذ عقلها يثور و يثور , و قلبها ينزّ حسرة ، فصاحت فيه لتخرص صوته الذي لم تسمع منه سوى وسوسته :
- كفاية .. كفاية بقى .. عامل نفسك برئ يا غشاش !! ما كنتش أعرف إنك شيطان في شكل ملاك .
- فذهل من قولها , و هتف مبهوتاً غير مبال بنظرات العوام المتطفلة : كانت والله ماضي يا منى , و راح لحاله .. بس الأحداث سبقتني .. مالحقتش أقولك والله .. أقسم لكِ إني كنت حاقولك الحقيقة .. دا سجل مقفول من مدة طويلة .
- أنت قلت لي قبل كدا بإنك ماكنتش تعرف أي مخلوقة .. أنت كدبت عليّ , و جرحت كرامتي ، و طبعا ما خفي كان أعظم .
- ثم أردفت في حرقة : أنت خذلتني , و ضيعت ثقتي فيك ، و شوف يا ترى كدبت في ايه تاني !!
- دا ماضي بعيد مالكيش حق , و لا ولاية عليه .. ازاي تحاسبيني على شيء حصل بالفعل , و انتهى حتى من قبل ما أعرفك يا منى ؟ ؟ ! ! أنتي فاهمة , و لا لأ يا منى ؟ ! ! عقلك فين اللي بتتباهي به ؟ !
- أنت خدرته بكلامك , و أفعالك المزورة .. أنت سلبت إرادتي ، و لكن مش هتدوم الغفلة دي .
ثم أوقفت تاكسياً , فدلفت فيه على الفور , و انطلق بها لا تلوي على شيء .
و صلاح يكاد يجن مما حدث في ثوانٍ ، فهدم كل خططه في أيام , وليالٍ طويلة .. قشة تهدم جبلاً !!
ثم اتجه إلى محمد لعله يجد لديه الملاذ ، فما كاد تنفرج ضلفة الباب عن وجهه الكاظم الملامح ، حتى مرق إلى غرفته .
- فقال له محمد متبسماً : ابن حلال .. لسه كنت في بالي .. عندي أخبار جديدة مفاجأة لك .. تصور إني اتكلمت مع سهير النهاردة ؟َ ! آه .. كانت غاية في الرقة معايا قوي ، حتى كلماتها كانت ..
فقاطعه صلاح هنا , و لم يطق حرفاً واحداً فقد انتابته نوبة استياء بالغة فيأس أن يفاتحه لما حدث له منذ قليل .
فحقد على سعادته تلك , و رغب في تحطيمها , أو تدمير أي شيء حتى , و لو كان أقرب الناس إليه .
- فقال له في سخرية لاذعة : و يا ترى قلت لها عن مشاعرك الملتهبة يا روميو عصرك , و أوانك ؟ ! و يا ترى قلت لها عن عيونها اللي مش بتنام من رموشها ؟ !
- رفع محمد حاجبيه متعجباً : طبعاً لأ .. ما قدرتش أفاتحها بكل حاجة كدا مرة واحدة ، لكني مهدت لها , و فضلت التلميح ، أحياناً التلميح يكون أفضل من التصريح .. مش كدا ؟ ! و بعدين مالك النهاردة ؟ ! مش عوايدك يعني ؟ حصل حاجة و لا إيه ؟ !
- فرد صلاح مشيحاً بوجهه : لا يا سيدي .. فكل يغني على ليلاه فعلاً .. بإذنك بقى .. أراك أمس يا صاحبي .
ثم انصرف وسط دهشة و تعجب محمد .
نهـــاية الفصـــل الثامن
=======
الفصـــل التاســـع
=====
و في المساء جاء زائر لمحمد , فألفاها منى ، فرحب بها لفوره بعدما استقبله , و قال في تعجب لما هي عليه من جد وحزن بالغ .
- خير .. مالك ؟ ! حصل حاجة , و لا إيه ؟ ! !
ردت في حالة يرثى لها ، فلم تتمالك أعصابها المنهارة طوال اليوم ,فأجهشت بالبكاء , و في أثناء حديثها سألته :
- أنت كنت عارف بماضي صلاح , و تجاربه ؟؟
- فأطرق لحظات , ثم قال معترفاً : بصراحة .. أيوة .. و لكن ..
- فقاطعته بحدة : و ليه ما قلتليش ؟ ! !
- فقال مدافعاً عن نفسه : لأنك ما سألتنيش , و لا مرة .. ثم سبق , و حذرتك من نتيجة دخول علاقة مع صلاح ، ما اتصورتش أن العلاقة بينكم هتتطور كدا بالسرعة دي !!
- فقالت في توسل مؤثر : أرجوك .. قولي كل حاجة تعرفها عنه .. ماضيه .. بيئته .. شخصيته .. أنا لسه مش قادرة أتخلص منه جوايا ..
- فزفر من أعماقه لذلك الموضوع الشائك , ثم قال بتنهد : أرجوكِ يا منى اعذريه زي ما أنا دايماً باعمل معاه .. الظروف الصعبة اللي مر بها هي اللي عملت شخصيته بالشكل المشوه دا .. هو كان ضحية بيئة مفككة جنت عليه من المشاكل اللي كانت دايماً بين أبوه , و أمه و عقد بتزيد يوم بعد يوم .. لحد ما انفصلوا عن بعض ، و دي كانت بداية الانهيار ، عاش صلاح بعدها وحيد مشتت المشاعر يحارب البيئة اللي حواليه , و تحاربه لوحده ، لولا إصراره على إنه يكون حاجة فعلاً لانحرف بكل سهولة , و انهار خالص , و ضاع مستقبله , وعمره ما كان وصل لكليته دي ..
- ثم أردف متنهداً : كنت باذاكر معاه عشان أشجعه , و يثبت جدارته قدام الجميع .
- فسألته , و قد بدت أكثر هدوءاً : طيب .. قولي عن علاقته بالناس كانت إيه !!
- كان صعب قوي في البداية ما بتحملش حاجة من حد .. كان محتاج للشعور بالحنان , و الحب , و أنه مرغوب .. لحد ما حصلت مشكلة جارته دي معاه ..
- أكمل محمد , و علامات الاهتمام بادية على وجهها : كانت جارته من الطفولة , و كانت معاه لحد ما كبروا , و ارتبطت روح كل واحد منهم بالتاني ، و فضل الحب جدوره تكبر في قلوبهم يوم بعد يوم ، و يكبر و يكبر .. لحد ما اتفقوا على الارتباط كمان .. لكن في رحلة الحياة يا منى حاجات كتيرة ما بنرضاش عنها بتتحكم في حياتنا .. و مش كلها تيجي زي ما بنحب أكيد ، بدأ الزمن ينهش فيه , و يدمر استقرار حياته اللي بالعافية كان متماسك ، و اللي الحب هو اللي قدر يثبته الفترة دي كلها .
- ثم أردف : و تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن .. البنت اللي ارتبط بها من أعماق قلبه , و أدالها حياته بأول من اتقدم لها , و نست كل وعودها , و ضيعتها , و ضربت بها عرض الحائط ، حاول يترجاها لكن مافيش فايدة ، فقالت له إن الامكانيات المادية هي فيصل الحياة دلوقت , فاختارت الحصان الكسبان طبعاً فحطمته .. و من هنا كان انحراف شخصيته , و مصدر القسوة ضد أي حب صادق يقابله ، بقى ما يؤمنش إلا بتلذذ تعذيب الناس .
- عقبت منى ,و بوادر التفهم العميق قد بدت عليها : مممممم يعني نقدر نقول إنه من النوع السادي ..
- نظر محمد لها مستفهماً , فقالت : يعني التلذذ بتعذيب الغير , و لو كان أقرب الناس له كمان .. تربيته , و تجربته الفاشلة خلت حبه سادي ينتقم من كل ما يصادفه , و كل بنت يقابلها ، مفكر إنه بينتقم من حبه الأول ، و كأنه طفل بيلعب باللعب , و بعدين يكسرها عشان يتمتع بتوسل الغير له .
فأومأ محمد موافقاً على تحليلها ، ثم نهضت , و قد أرضتها تلك المعلومات ؛ لترتب أفكارها من جديد ، و تخطط في كيفية ترويض تلك الشخصية المعقدة ..
نهايــــة الفصـــل التاســـع
======
الفصـــل العاشـــر
======
بدأ عقل منى يعمل في نشاط , و تركيز غير عادي بعد الحوار الطويل الذي دار بينها , و بين محمد ، و بدأت تضع خطوات محددة لكي تستطيع إنقاذ ما يمكن إنقاذه من نفس , و عقل ذلك الفتى الذي مزقته يد القدر , و جنت عليه الظروف التي نشأ فيها ..
- بدأت تسأل نفسها : يا ترى أروح أتكلم مع والديه ؟ و لا أروح أتكلم مع حبيبته الأولانية اللي جنت عليه هي كمان ؟ !! يا ترى الأصح أبدأ منين ؟ ! !!
رأت منى أن تبدأ بالجانب الأصح , و الأضمن في رد الفعل على الأقل من ناحية , و يجدي نفعاً , و تعاوناً من ناحية أخرى ..
اتجهت منى على فورها في اليوم التالي إلى والد صلاح , و كان رجل أعمال شهير ناجح , و صديق والدها أيضاً كما ادعى صلاح من ذي قبل ..
و كانت منى قد مرت على محمد في طريقها , و سألته عن عنوان , والد صلاح , فعرفته بعدما دونته ، ثم استقلت سيارة أجرة ، و اتجها إليه , و هي تحاول تنظيم سير الحوار الذي سيدور بينهما ، و كيفية فتح الموضوع معه ؛ لكي يساعدها فيما عولت عليه .
و هناك بعدما , وصلت مقر شركته الفخمة في ذاك الحي الراقي صعدت إلى مقر الشركة ، و أبهرها ديكور , و ذوق الشركة ، فسألت السكرتيرة :
- أهلاً بحضرتك .. أنا منى اللي اتصلت النهاردة بكِ الصبح , و كان فيه ميعاد مع الأستاذ حسين البسيوني .
- ثم أردفت , و قد اصطنعت تلك الأكذوبة , لكي تنال الاهتمام بها فقط , فأضافت : و كمان زميلة صلاح ابنه في الكلية ..
- قامت السكرتيرة على فورها , و صافحتها : آه .. أهلاً وسهلاً يا فندم .. نورتينا ، اتفضلي ارتاحي شويه لحد ما أديله خبر بس بحضورك ..
- ردت منى مبتسمة , و هي تجلس : متشكرة قوي لحضرتك ..
دلفت السكرتيرة لمكتب والد صلاح ؛ لتخبره بقدوم منى زميلة صلاح ابنه .
و ما هي إلا دقائق حتى معدودة حتى خرجت إليها ؛ لتأذن لها بالدخول إليه , فأشارت إليها بالتفضل بالدخول .
دلفت منى حجرة المكتب الخاصة بوالد صلاح لتجده رجلاً كما توقعته تقريباً قد ناهز الخمسين بقليل وسيماً أنيقاً مهندماً في ملبسه يضع نظارة رقيقة على عينيه ، فلا عجب إذن أن يرث صلاح منه تلك الصفات كالأناقة , و الاهتمام بالمظهر بشكل عام .
حاولت منى أن تكون لهجتها هادئة , و ودودة لتترك انطباعاً لديه إيجابياً نحوها يسهل لها إدارة الحديث كما تتمنى ، و تصل معه لنتيجة مرجوة في صالح الجميع ، و تحظى بمساعدته في حل تلك الأزمة التي هم بصددها .
فلا شك أن والده كان له دور سلبي بارز كل تلك الفترة تجاه ابنه صلاح ، جعله يؤول لما صار إليه ، و أهمله حتى انحرفت شخصيته إلى هذا المدى الذي وصل إليه .
- قالت منى في تودد , و هدوء , واضح , و هي تمد يدها لتصافحه : أهلاً بحضرتك يا عمي .. دي فرصة سعيدة , و شرف عظيم لي والله إني أقابل حضرتك .. أنا منى زميلة صلاح .
- ابتسم والد صلاح ابتسامة عريضة ,و نهض ليصافحها : أهلاً بكِ آنسة منى .. أنا أسعد والله ..
- ثم أردف : هيه .. إيه أخبارك , و أخبار صلاح ؟ بتذاكروا كويس ؟ الامتحانات قربت مش كدا ؟ !
- تحفزت منى ؛ لتبدأ ما خططت إليه : والله يا عمي هو دا اللي جيت لحضرتك عشانه .. صلاح .. كنت بس عاوزة أسأل حضرتك من إمتى ما شفتهوش , ولا قابلتوا بعض ؟ ! !
- نظر إليها متعجباً من سؤالها المباغت , فعقد حاجبيه ورد مفكراً : ٍمممممم من فترة طويلة فعلاً .. بس المشغوليات , و سفري المستمر بقى .. ليه خير ؟ ! !
- آه .. على فكرة دا كان قالي إن حضرتك كنت صديق والدي أ . أدهم ذهني كان رجل أعمال برضه الله يرحمه في الاستيراد , و التصدير ..
- سكت برهة , و فكر ملياً , و أخذ يحك سبابته في جبهته مركزاً : أدهم ذهني .. بصراحة مش فاكر قوي الاسم .. يمكن اتقابلنا في الشغل زمان فعلاً .. معلش الذاكرة بقى خلاص ههههههه .
ابتسمت منى مجاملة له ، و لم تكن مفاجأة لها أن تكتشف أكذوبة جديدة لصلاح بأن والده لم يتذكر حتى والدها الذي ادعى سابقاً صادقتهما العميقة القديمة أيضاً .
- فانتبهت ثم قالت : هه .. , ولا يهمك يا عمي .. المهم .. كنت عاوزه اتكلم مع حضرتك شوية عن صلاح .
- آه , و ماله .. اتفضلي .. خير !!
- والله حضرتك يا عمي .. صلاح من أول ما اتعرفت عليه , و هو واخد من حضرتك حاجات كتير في الشكل , و الهندام هههههه .. لكن .. صلاح على طول حاسة بأنه ناقصه حاجات كتيرة قوي قوي .. ضحكته .. كلامه .. طباعه .. عمره ما كلمني عن حضرتك , و لا حكى لي أي حاجة عن أسرته .. آه .. نسيت أقول لحضرتك إني تخصص علم نفس ، ودا لفت انتباهي بشدة ، و لولا إن صلاح صديق غالي , و عزيز ماكنتش اهتميت .. و برضه محمد صاحبه .. يمكن حضرتك تسمع عنه , أو تفتكره !! صديقه الوحيد على ما أعتقد ..
- آه .. افتكرت .. ممممم .. حاجة زي كدا فعلاً من زمن طويل قوي .. لما كانوا لسه صغيرين ..
- ابتسمت متشجعة , و أكملت : يمكن دا اللي شجعني إني أقابل حضرتك , و أكلمك بخصوصه .. صلاح محتاجك قوي قوي يا عمي .. الحزن اللي على طول في نبرة صوته .. في نظرته .. لما أحاول أتكلم معاه عن طفولته , أو أسرته ينقلب حاله ، و يشرد مني على طول ..
- ثم أردفت : يمكن اللي باطلبه من حضرتك ، و خصوصاً إن دي السنة النهائية لنا في الكلية ، و حيكون دفعة كبيرة له إن حضرتك تتصل به , و تسأل عن أحواله , و تبين له إنك مش ناسيه .. أكيد حايكون دا في صالحه .. صح و لا إيه ؟ !
- تنحنح والد صلاح ، وخلع نظارته ووضعها أمامه على المكتب , و قال بعدما أعطاها الوقت الكافي للتحدث : مممممم .. أولاً أشكرك خالص على اهتمامك الكبير , و الواضح بصلاح , و بمستقبله ، و سعيد قوي إنه عرف ينقي أصحابه فعلاً ..
- ثم أكمل بعد برهة سكوت : طبعاً أنا عارف إني مقصر معاه صراحة .. لحكم شغلي المتواصل , و سفري المستمر ، دا إلى جانب انفصالي عن والدته من زمن طويل ، لكني كنت كل فترة باتصل عليه , و أشوفه محتاج حاجة أو ناقصة حاجة ..
- قاطعته بلطف : هو محتاج لحضرتك يا عمي .. لحضنك .. لمشورتك , و نصيحتك .. لوجودك في حياته .. صلاح كبر , و كان محتاج لقلب , و صدر يفضفض له ، و يحتمي له لو لزم الأمر .. مش للفلوس , أو للأكل , و الشرب , و اللبس بس .. فاهمني يا عمي ؟ !!
- نظر لها والد صلاح بعمق مثبتاً نظره عليها : يظهر الموضوع كبير باين عليه هههههه و لا إيه ؟ ! هو واقع في مشكلة مع حد ؟ ! إيه لزمة الكلام دا كله ؟ ! و بعدين أنتي متأكدة إنها علاقة صداقة بس ؟ !
- ارتبكت منى قليلاً ثم ردت : ليه السؤال الغريب دا يا عمي ؟ !!
- أصلي شايف طريقتك , و اهتمامك الشديد في الكلام عنه كدا معايا مش أوفر شوية عن مسألة الصداقة دي ؟ !
- ثم أردف متنهداً : عموماً طبعاً كلامك منطقي , و عاجبني بصراحة .. لكن الظروف , و شغلي , و حياتي كلها غير مستقرة بالمرة زي ما شرحت لك ، و هي اللي فرضت عليّ الوضع دا سواء سميته إهمال , أو تقصير منه نحوه ..
- قاطعته منى مبتسمة : أولاً يا عمي هو الحمد لله مش في مشكلة مع حد , و لا حاجة .. المشكلة باختصار فيه هو .. شخصيته .. طريقته في التعامل مع الناس .. نظرته لهم عموماً , و للبنات خصوصاً , و حتى لأصحابه .. دا سبب كافي لاهتمامي , و اهتمامي الشديد زي حضرتك ما بتقول كدا .. هو .. هو طبعاً ما أنكرش فيه استلطاف بينا , و لكن عموماً دا مش موضوعنا دلوقت يا عمي .. فيه حاجة واحدة بتجمعنا كلنا سواء كان حضرتك , أو أنا , أو حتى محمد صاحبه .. كلنا بنحب صلاح فعلاً , و خايفين عليه ، و عاوزين هدف واحد .. سعادته ..
- ثم أردفت : و ثانياً بالنسبة لظروف شغل حضرتك دي لا تغني برضه عن سؤال دايم بالتليفون مثلاً .. تطلب منه يجي لحضرتك في الشركة هنا مثلاً .. احتضنه يا عمي ..
ثم خطرت فكرة على بالها أثناء الحوار , فابتسمت , و هتفت :
- ليه مثلاً ما فكرتش تشركه في شغل حضرك هنا ؟ ! تفهمه , و يكون ظهرك , و سندك , و دراعك اليمين ؟ !
- و من ناحية تانية نشغله , و نبعده عن أي مشاكل ممكن تحصل له , و ترتاح نفسيته كمان ، و يبني حياته , و مستقبله ، و يفكر , و يبص بجدية للحياة بدل ما هو واخدها كلها كدا تسالي , و لعب .
- ابتسم والد صلاح ابتسامة عريضة , و قال : لا لا .. مش ممكن تكون دي صداقة بسيطة أبداً أنا لي نظرة برضه ههههههه .. معلش آسف .. بس والله برافو عليكي ليه لأ ؟ ! أنا ليه ما جاش في بالي الفكرة دي فعلاً خالص ؟ ! مع أنها منطقية جداً كمان .. الله ينور عليكي يا بنتي .. أنا محتاج فعلاً لشباب , و ناس , و دم جديد في شغلنا , و يكون ثقة , و أمين في نفس الوقت ، و عمري ما حلاقي زي ابني يخاف على مال أبوه , و يصونه , و يكون عين لي على اللي بيحصل حوالي هنا , و هناك ..
- ثم أردف : والله أنتِ بنت مية مية .. لكي حق تكوني بنت رجل أعمال محترم , و كمان قسم علم نفس هههههههه .. أنا مبسوط منك قوي ، و معجب بأسلوبك , و تفكيرك في الكلام , و التعامل كمان ..
ابتسمت منى , و انشرح صدرها لكلام والد صلاح الإيجابي , و هكذا حققت مكسب كبير , و فوزاً مؤزراً في مأموريتها الأولى التي جاءت من أجلها ، فلم تكن تتوقع مثل هذا النصر الكبير , و التعاون منه , و تفهمه لحديثها .
- ثم قالت في رجاء له : بس أرجو منك يا عمي أنك إذا كلمته بلاش تجيب سيرتي خالص عشان ما ينجرحش , و يحس بالشفقة منا ، فتيجي بنتيجة عكسية ، و يبقى دا كأنه تصرف عادي من حضرتك , و من قلبك مش حد خلاك تعمله مش كدا صح , و متفق معايا , ولا إيه ؟ !
فأومأ لها موافقا في ابتسامة كبيرة ، ثم همست في نفسها :
- بكدا أكون حققت هدفين بحجر واحد وضربة واحدة .. الأول خليت والد صلاح يكون في الصورة معانا ، و من ناحية تانية صلاح ينشغل بحاجة مفيد , و حياته تبدأ تتغير للأحسن ، و نظرته تبدأ تتغير واحدة واحدة للناس حواليه , و يبقى فيه هدف يحققه .
ثم قامت , و همت بالانصراف , و مدت يدها , و صافحت والد صلاح بحرارة الذي وقف بدوره , فصافحها , و حياها ، و أوصلها حتى باب المكتب , و أشار لها مودعاً في ابتسامة عريضة ، ثم عاد إلى مكتبه , و جلس على كرسيه المريح ، و أمسك بهاتفه المحمول ، وبدأ يقلب في أسمائه مبتسماً ..
نهـــاية الفصـــل العاشـــر
=======
الفصــل الحادي عشـــر
========
خرجت منى من عند والد صلاح , و كلها حيوية , و أمل وحماسة تجددت مرة أخرى , و دافعية تشجعها على تنفيذ ما خططته ، فأول خطوة قد تحققت بنجاح باهر أكثر من توقعاتها نوعاً .
فأهم شيء فيما خططته أن تتعاون كل الأطراف , و تخلص في إنقاذ صلاح من المستنقع الذي تردى فيه طوال عمره ، و لعل كلمات محمد كانت ماتزال تطن في أذنيها ، أنه كان من الممكن أن يضيع مستقبله تماماً , و ينهار كليةً في ظل هذا الإهمال الرهيب الذي تعرضت له طفولته ، فكان من الممكن أن يتعاطى مخدراً على سبيل المثال أو يتاجر فيه أيضاً ، أو يصير بلطجياً في دروب الهوى الضالة طالما لا رقيب , و لا حسيب يراقبه , أو يحاسبه , أو حتى ينصحه .
كانت الخطوة التالية في خطتها هي أمه .. فهي تعلم أن الأم بالذات لها مفعول السحر في أبنائها ، فهي حبل المسبحة الذي إذا انقطع انفرطت , و لن تجمع إلا بصعوبة بالغة ، و لعلها كانت متعجبة كيف أهملت صلاح ابنها كل تلك الفترة دون أن يناديها ضميرها , أو يؤنبها على الأقل ، فإذا كان والد صلاح معذوراً بسبب انشغاله في عمله , و سفره المتواصل ، فما حجة الأم التي حياتها أساساً هي أطفالها , و أسرتها وبيتها ، فتلك هي غريزة , و طبيعة الأم التي وهبها الله إياها ، فعجباً لأم لم تحرمها الظروف شيئاً ثم بطرت معيشتها لسبب ما أو لهوى لديها , فتهدم بيتها بيديها , و لم تتردد ! !
ذلك ما كان يجول في خاطر منى , و يعتلج صدرها أثناء صعودها درج بيتها ..
مرت منى على محمد ، و فتحت لها أمه , فرأته من خلف باب غرفته يرسم لوحة ممسكاً بالفرشاة , و اللوحة منصوبه أمامه منهمكاً بها , و كأنه يتعجل إنهائها ، ثم تركها ؛ ليتفرغ إليها , و يصغي إلى ما جاءت به من أخبار تسر النفس وتشرح الصدر ، حتى لم يكن يتوقعها في أحلامه ..
- جلست منى في الصالون , فلما أتاها ابتسمت له ابتسامة عريضة في وجهه , فقال لها : إيه الأخبار ؟ شكلك كدا فيه أخبار حلوة معاكِي جيباها لي صح ؟ ! يا رب يكون فيه أمل ..
- بشت منى في وجهه , و قالت : الحمد لله يا محمد .. نتيجة رائعة , و تعاون من والده أكتر من اللي توقعتها كمان بصراحة ، والده راجل ذوق قوي , و متفتح , و دمه خفيف قوي كمان ..
- قال محمد مبتسماً : الله الله احنا وقعنا فيه , ولا إيه ههههه ؟! بس معاكِي حق .. أنا فاكر حاجات طشاش منه زي كدا زمان , و احنا صغيرين زي ما بتقولي كدا بالضبط ..
- بصراحة كان لطيف جداً معايا , و ما قلش كلمة واحدة زعلتني , أو حتى صدمتني الحمد لله ..
- طيب عال عال يعني تفهم الموقف , و كان إيجابياً معاكي ؟
- خالص , و أقنعته كمان يستعين بصلاح في شغله عشان يشغل وقته في شيء هادف , و مفيد , و يدي له هدف يعيش عشانه ، و يختلط بناس , و جو جديد عليه غير السواد اللي كان عايش فيه , و يكتسب فكر , و مهارات جديدة غير مهارة توقيع , و تعذيب البنات دي هههههههه .
- ضحك محمد بشدة : ههههههه صح معاكي حق والله ، و فكرة ممتازة عمري ما فكرت فيها , و لا خطرت في بالي ، والله برافو عليكِ يا منى ما يجيبها إلا ستاتها هههههه ، صحيح ما خاب من استشار .. طيب , و يا ترى بقى الخطوة التانية إيه عندك طمنين ؟ يمكن أقدر أساعدك فيها .
- قالت منى مركزة : بصراحة كنت بافكر في أمه ، هي كمان لازم تساعدنا , و يكون لها دور في حياته الجديدة اللي بنخططها له .
- مممممم ، فكرة حلوة برضه بس يا ترى ظروفها إيه دلوقت ؟ ! مش عارف رد فعلها بصراحة , و لا فكرها كدا متفتح زي والده , و عندها استعداد تمد إيديها معانا ؟ ! إذا كان والد صلاح لسه ما اتجوزش , و دي مفاجأة طبعاً ، فيا ترى أمه حياتها بقت إيه دلوقت ؟ ! دا عمري ما شفتها برضه من صغرنا ! ! يمكن سافرت مثلاً !
- ثم أردف : عموماً بلاش نسبق الأحداث . . طبعاً هتحتاجي عنوانها هي كمان ! و دا صعب شوية . . والد صلاح له شركة عامة , و عنوانها معروف . . لكن أمه !
سكتا دقائق يفكران بعمق ، و محمد يعتصر ذهنه ؛ ليجد حلاً يعين به منى , و صديقه , و رفيق دربه ، ثم هتف محمد مبتسماً :
- بس وجدتها . . أكيد فيه جيران عند بيتنا القديم يعرفوا عنوانها , أو سمعوا عنها على الأقل . .
وبالفعل ارتدى محمد ملابسه في خفة , و انطلق في طريقه بسيارته إلى مكان منزله القديم القاطن في حي متوسط الحال . .
و هناك صادف أحد شباب المنطقة أمام محله ، و كان قد شب معهم في طفولته ، و تغيرت ملامح صديقه نوعاً ، و لكن بقيت ذكريات الطفولة الغريرة كما هي على عهدها صغيرة لم تكبر ، فما كان من صديقه إلا أن رحب به بالقبلات و الأحضان و الترحاب الحار .
- فقال له محمد , و هو ممسك بكتفه في ود : إزيك يا سيد , و عامل إيه و الله زمان يا مان ، لك وحشة كبيرة و الله .
- رد سيد صاحبه في سعادة بالغة , و عتاب : يعني أنت بتسأل عنا من ساعة ما سافرتم , و لا نقلتم , و احنا , و لا بنشوفكم , و لا حتى بالصدفة ، العيب عندك يا حمو . .
- ضحك محمد , و قال : ههههههه . . وحشتني حمو دي و الله ياااااه يا أبو السيد ، عموماً احنا ما سافرناش , و لا حاجة ، و لكن نقلنا بس بعيد شوية ، اشترينا شقة لوكس كدا في حي حلو من ورث أبويا الله يرحمه .. بس أكيد هاخد موبايلك , و موبايلات الحبايب هنا كمان .
- وماله , و نبقى على اتصال ببعض في أي ظروف , أو مناسبات على الأقل لحد ما نتقابل ، دي عشرة سنين طويلة , و عمر جميل يا جدع ، أنا هنا واقف في محل أبويا المريض باساعده مع دراستي , وأهي نوايا تسند الزير .
- آه . . عال عال ، ربنا يعينك , و يفتح عليك . . بأقولك إيه يا سيد . . هو خالتي أم سيد فوق ؟ أصلي كنت عاوز أسألها عن واحدة كدا كانت معانا هنا زمان .
- ضم سيد حاجبيه , و قال في دهشة : أمي تعيش أنت من زمان يا عم ، أنت فين ؟ ! الله يرحمها بقى . . و مين الست دي اللي بتسأل عليها ؟ !
- الله يرحمها يا رب دي كانت في مقام أمي و الله , و أمي هتحزن عليها خالص لما تعرف . . الست اللي باسأل عليها دي تبقى أم صلاح البسيوني جارنا هنا من زمان .
- يااااه . . صلاح البسيوني . . دا أنت رجعتني لزمن الفن الجميل هههههه . . دا احنا كنا بنعمل عمايل يا جدعان , و احنا صغيرين ! ! شوف يا سيدي أنا هاجيب لك الأخبار من كبير بصاصين المنطقة كلها , والطابور الخامس فيها كمان هههههه عم خليل الحلاق ، دا بقى يعرف دبة النملة في الحارة كلها ، استنى هنا خمسة .
ثم استأذن منه , و اتجه على فوره لمحل خليل الحلاق , و هناك دار الحوار بينهما , ثم عاد بعد دقائق مبتسماً .
- شوف يا سيدي أم صلاح اتجوزت بعدما اطلقت من أبو صلاح بكم سنة , و راحت تعيش مع جوزها الجديد , و مع أولاده ، هم كانوا وقتها لسه عيال طبعاً ، زمانهم كبروا أكيد دلوقت ، و بيقولك أنها اتجوزت موظف كبير في التربية و التعليم تقريباً .
- آه . . اتجوزت . . طيب ماشي . . يعرف أي حاجة عن عنوانها ؟ !
- ليه خير ؟ ! ليه السؤال دا كله ؟ ! هو صلاح عمل حاجة , و لا مؤاخذة ؟ !
- هههههه لا يا عم حرام عليك . . بس كانت أمي عاوزة ترد لها دين قديم بس .
- مممممم . . طيب . . شوف مافيش غير ستات الجيل القديم هنا غير الحاجة انتصار أم أيمن هي أكيد عندها أخبار , أو معلومات .
- آه . . صحيح ، هي لسه عايشة ياااااه . . دي هي اللي كانت بتوصلني المدرسة في سكتها , و هي بتوصل أيمن ابنها الصبح حتى كان أكبر مني شوية .
- طيب تحب آجي معاك , و نشوفها ؟ !
- لا لا ما لوش لزمة أنا حاروح لها . . لسه فاكر شقتها في العمارة اللي كانت جنبنا .
ترك محمد سيارته أمام محل سيد جاره ، و ذهب إلى أم أيمن , و خف إليها في عوده الدرج , و هو مبتسم يتذكر تلك الأيام الخوالي , فكل شبر فيه له فيه ذكرى , و بصمة في حياته .
- ثم طرق الباب , و جاءه الصوت الواهن من خلفه : مين اللي بيخبط على الباب ؟ !
- أيوة يا خالتي أم أيمن أنا محمد العربي ابن جارتك أم محمد ، بس افتحي .
- أم محمد ؟ ! محمد العربي ! ! طيب استنى أنا جاية لك يا بني .
و فتحت له الباب , فرأى ملا محها , و قد غيرتها يد الزمن , و ظهر عليها العمر المديد , و الوهن الشديد في حركتها .
- قال لها : أنا محمد يا حاجة مش فاكراني ؟ ! كنا ساكنين هنا جنبكم في العمارة دي .
- هتفت في سعادة , و قد تذكرت بعد عصر لذهنها : ياااااه يا بني تعالى يا ابن الغالية خش يا حبيبي .
- فاحتضتنه , و ربتت على ظهره , و أجلسته على أقرب كرسي , و جلست أمامه متهالكة من التعب الشديد , و قالت في اشتياق : فينكم يا بني كل السنين دي ؟ ! وحشتونا خالص و الله ، بقى كدا تغيبوا , و تقولوا عدوا لي ؟ ! و الله أنا زعلانة من أمك كتير عشان مش بتسأل عني دا كان عيش , و ملح يا بني .
- معلش يا حاجة و الله الزمن بقى , و المشاغل الكتيرة . . عموماً حاضر هكتب لك رقم تليفوني , و الموبايل كمان , و أخليه عندك , و هخلي أمي تتصل بكي إن شاء الله .
و بعد بعض الدردشة الخفيفة , و السؤال عن الأحوال , و عن أيمن ابنها , و أحواله سألها محمد عن أم صلاح فقالت :
- كنت عاوز اسألك يا حاجة عن أم صلاح البسيوني اللي كان جارنا هنا زمان ، ما تعرفيش نقلت راحت فين ؟ !
- يااااه يا بني دا أنت جاي تفكرني بالحبايب كلهم النهاردة . . و الله زمان .
- و تنهدت ثم قالت : هي اتجوزت واحد من جماعة إيه يا انتصار ؟ ؟ أظن جماعة العطار . . آه . . بعدما اطلقت من عمك أبو صلاح , و نقلت مع جوزها التاني مدينة نصر بعيد شويتين جنب التأمين الصحي هناك على طول ، كانت قالت لي العنوان في آخر مرة لما شفتها .
وبعد ما شرب الشاي هم بالانصراف , و قال لها في تودد شديد :
- ما تنسيش سلامي الكبير قوي لأيمن ضروري لما تشوفيه يا خالتي , و لنا زيارات , و اتصالات إن شاء الله .
و بعدها ألقى السلام على أهل حارته الطيبين , و صديقه سيد , و انطلق إلى مدينة نصر . .
نهايـــة الفصــل الحادي عشــر
=======
الفصــل الثاني عشـــر
=======
اتصل محمد على محمول منى من سيارته , و أخبرها بما كان في لقائه , و النتيجة التي وصل إليها , و أخبرها بأنه في طريقه إلى هناك ؛ ليتأكد من العنوان , و ليك يبحث عنه بدقة أكثر : فأكيد أنه سيبحث كثيراً عن هذا العنوان , و لن يجده بسهولة ، و تمنت له التوفيق .
وصل محمد مدينة نصر , و سأل عن التأمين الصحي هناك , فوجده على فوره , ثم عمد إلى المنزل المجاور له , وسأل أحد البائعين تحته عن أحد موظفي التربية و التعليم من عائلة العطار ، فلم يستدل عليه بسهولة كما توقع ، فتذكر نصيحة صديقه سيد بأن دائماً الحلاق عنده أخبار المنطقة التي يعمل بها ؛ لأنه أكيد يحلق عنده أهل منطقته .
اتجه صلاح صوت أحد محلات الحلاقة ، و سأله عن ضالته , و بعد بضع دقائق من التركيز بالفعل تذكره الحلاق , وأخبره عن مكانه ، فسعد محمد أيما سعادة ، فقد كان المنزل خلف التأمين الصحي , وليس بجواره . اتصل محمد على منى ؛ ليخبرها بأنه قد وفق في الوصول للعنوان , و لكي تتهيأ للخروج , و أنه سيمر عليها ؛ ليحضرها إلى العنوان الصحيح ؛ لأنه من الصعب أن تصل إليه مباشرة .
و بالفعل تجهزت منى , و حضرت الحوار الذي ستديره ، و عندما تلقت مكالمة من محمد نزلت على فورها , و دلفت إلى جواره , و انطلق بها .
- قال لها محمد : أنا كدا عملت الدور اللي عليّ عرفت لكي العنوان بالضبط ، الدور , و الباقي عليكِ يا بطلة ، حضري نفسك , و رتبي كلامك كدا , و استعدي لأي رد فعل , أو مجريات حوار ممكن يحصل معاكي .
- ربنا يستر يا محمد . . ماشي .
صعدت منى الدرج , و هي تقرأ اللافتات حتى وجدت ضالتها . . لافتة مكتوب عليها " أستاذ مصطفى العطار مدير في التربية و التعليم " . . أغمضت عينيها برهة , ثم زفرت ، ثم طرقت الباب , ففتحت لها آنسة , و سألتها في استغراب :
- أيوة . . مين حضرتك ؟ !
- أنا منى ذهني كنت عاوزة ماما لو سمحتي . .
- طيب ثواني . .
ثم جاء النداء من خلف الباب . .
- ماما سناء تعالي كلمي تقريباً حد من بتوع الدعاية . .
ثم جاءت الأم , و كانت امرأة جميلة في بداية العقد الخامس من عمرها ، و كانت تمسح يديها في منشفة من أثر المطبخ على ما يبدو .
- ابتسمت منى لها ابتسامة عذبة , و قالت لها في تودد : أهلاً بحضرتك يا فندم ، أنا منى ذهني زميلة صلاح ابن حضرتك في الكلية .
فسكتت منى لما وجدت والدة صلاح تتلفت حولها لما سمعت اسم ولدها , و كأنها قد لسعت , فخفضت صوتها , و قالت لها :
- أهلاً بكي خير فيه حاجة ؟ !
فوجئت من تلك المقابلة الباردة ، ثم تداركت الموقف , و قالت :
- ممكن نتكلم مع بعض شوية بس ؟ ! مش هعطلك كتير .
_ أصل .. أصل .. طيب تعالي اتفضلي معايا .
ثم أشارت لها بالدخول في الصالون , ثم دخلت في عقبها مباشرة , و تحدثت , و كأنه الهمس :
- معلش وطي صوتك شوية ، مش عاوزة حد من العيال هنا يسمعنا بس .
- تعجبت منى بشدة , ثم قالت في همس : ليه يا فندم هو فيه حاجة ؟ ! !
- قالت الأم في ارتباك : أصل .. جوزي محرج عليّ سيرة صلاح ابني خالص هنا .
و هنا بدأت منى تدرك حجم المأساة التي وقعت فيها تلك المرأة ، و سبب انقطاعها عن ولدها .
- حاضر يا طنط ، مش هعطلك هم 10 دقايق بس و الله .
- خير يا بنتي فيه إيه ؟ ! !
- لا يا طنط خير إن شاء الله . . أصل صلاح محتاج لحضرتك قوي الفترة دي ، بيمر بظروف نفسية صعبة قوي ، و حياته غير مستقرة ، و بيتعرض لمشاكل كتيرة . .
- مشاكل مع مين ؟ ! ! ممكن أديلك عنوان والده هو ممكن يساعدك .
- كنت لسه عنده , و كلمته برضه ، لكن كنت قلقانة من سفره و شغله الكتير دا مش هيقدر يساعدنا زي حضرتك مهما كان برضه ، الأم مش زي الأب . . و لا إيه ؟ ! !
- آه . . شغله وسفره . . ما هو دا كان سبب خلافاتنا , و طلاقنا أصلاً . . كان هاملنا على طول ، و كل ما أحتاجه ما كنتش ألاقيه ، و كان نفس المبرر دا برضه ، عشنا حرمان , و خناقات مستمرة لحد ما زهقت ، و كان الانفصال هو الحل الوحيد قدامي . .
- ثم أردفت : بصي يا بنتي . . أولاً صلاح ابني ما شفتهوش من زمان قوي ، و يمكن الاتصال انقطع بينا كمان ، لأنه لما مش بيتصل بي باقول خلاص يبقى كويس و بخير ، و ثانياً جوزي أستاذ مصطفى اشترط عليّ إني ما استقبلش صلاح هنا في غيابه ؛ لأنه كبر , و خايف على البنات زي ما شفتي كدا برضه ، و لما حصلت خلافات كتيرة في بداية جوازنا بينه , و بين صلاح خفت على صلاح من ناحية يتبهدل مع جوز أمه , و يتعقد ، و خفت على جوازي التاني ينهار برضه من ناحية تانية . .
- عشان كدا اتفقت مع جوزي إننا الأفضل نفصل بينهم منعاً للمشاكل دي ، و كل ما كنت أقابله كان لازم يعمل مشكلة معايا بسبب جوزي لحد ما زهقت . .
- ثم سكتت هنيهة , و قالت : طبعاً أنا مقدرة مجيتك هنا ، و خوفك على صلاح ، و أني أحق بالخوف دا منك عليه ، لكن ما باليد حيلة يا بنتي . . هو مش بيدي لي فرصة أساساً عشان اساعده ، و خايفة تحصل مشاكل مع جوزي , , حطي نفسك مكاني .
و هنا تفهمت منى حجز المأساة كاملاً التي وقع صلاح فيها بين غياب الأب المستمر , و خوف أمه من انهيار زواجها الثاني ، و تصبح في عيون الناس أنها هي سبب انهيار زيجاتها طبعاً .
- أومأت منى رأسها موافقة ثم قالت : طبعاً تليفون صلاح مع حضرتك ، و مش لازم تتقابلوا كتير , و تسببي لنفسك مشاكل ، و لكن يكفي السؤال عنه كل فترة . . اعرفي بس اللي بيتعرض له ، الحياة إيه معاه ، اطمني يا طنط من ناحية الأكل , و الشرب , و اللبس , و الأساسيات دي هو تمام ، لكن فيه حاجات تانية مهمة قوي في حياة الإنسان يحتاجها ، فيه الحنان ، فيه حاجات بيحب يحكيها لأمه الصدر الحنين الوحيد عليه دوناً عن كل الناس حواليه .
- ثم أطرقت الأم رأسها و فعقبت : هو واقع في مشكلة كبيرة مع حد , و لا إيه ؟ !
- لا الحمد لله حالياً لأ . . بس المشاكل في شخصيته هو . . بسبب تشتت أسرته من صغره دا , و ظروف حضرتك , و والده , وانفصالكم خلته بقى زي المعقد نفسياً . . بينتقم من كل الناس حواليه , و هوايته ازاي يعذبهم , و يشوفهم بيتألموا زي ما بيتألم هو كمان . .
- تنهدت الأم , و زفرت زفرة عميقة , و همست : لا حول و لا قوة إلا بالله يا بني .
- أشفقت منى عليها , و قالت في ابتسامة خفيفة : أنا عموماً كلمت والده , و أقنعته يشرك صلاح معاه في الشغل بتاعه عشان يشغل وقته , و يخليه يغير جو شوية غير الكآبة دي اللي حاطط نفسه فيها , و تخليه يغير نفسه شوية شوية .
- ابتهجت الأم وقالت : يا ريت يا بنتي و الله يا ريت . . والله فكرة ممتازة .
- ومن ناحيتك برضه يا طنط معلش . . لازم برضه يلاقيكم كلكم حواليه ، و مهتمين به , و بتسألوا عليه . . لازم يحس بحب الكل اللي اتحرم منه من طفولته لحد ما كبر . . دا الحمد لله إنه ما انحرفش , و لا مشى غلط , و إلا كان ضاع منا خالص بلا رجعة .
- أومأت الأم برأسها موافقة : بعد الشر . . بعد الشر .. حاضر يا بنتي بس ياريت بلاش نفتح السيرة دي قدام العيال هنا عشان ما تحصليش مشاكل . . أرجوكي .
- حاضر يا طنط تحت أمرك ، و عموماً هاخد تليفونك , و أبقى أكلمك أحسن بدل ما المجي , و المشاكل دي ، و آسفة مرة تانية على الظروف دي و الله .
- يا بنتي . . آسفة على إيه بس ! ! كان نفسي أساعد بكل ما أقدر . . لكن أدي الله , و أدي حكمته بقى . . حتصل به , و أسأل عليه كل فترة بس يا رب ما يضايقنيش و لا يقهرني بكلامه العنيف معايا .
- و يا ريت يا طنط ما تقوليش له إني جيت لحضرتك , و لا كلمتك عشان بس يحس بأن التصرف دا , و كلامك من قلبك مش مني , و تبقى النتيجة أسوأ .
- حاضر . . حاضر
ثم همت منى بالانصراف ، و صافحتها والدة صلاح بعطف ، ثم انصرفت ، و لما هبطت الدرج وجدت محمد في انتظارها كما وعدها ، فدلفت السيارة , و قالت له ما دار , و ما حدث بالتفصيل ، و هي ناظرة أمامها ، و على نبرتها عدم الارتياح , و الحزن واضح في كلامها .
مط محمد شفتيه دليل عن حزنه أيضاً , و عدم الرضا ، و نظر أمامه , و قال في هدوء :
- دلوقت بس فهمت كل اللي بيحصل حوالينا , و لصلاح من طفولته لحد الآن . . يا عيني عليك يا صاحبي ! !
- ثم سكت برهة , و عقب : بس عموماً يا منى كان متوقع دا كله ، كان وارد يحصل ، و على أي حال احنا عملنا اللي علينا , و نبهناها هي كمان للظروف اللي بيمر بها صلاح , و المشاكل اللي في حياته , و هي لازم تقدر دورها , و تشاركنا برضه ، فرغم كل ظروفها دي لكن على كتافها مسئولية الأم اللي لازم تأديها . . لازم تساعدنا .
- همست منى : دا اللي كنت مصرة عليه ، و وضحته لها , و كررته كمان عشان ما يبقاش لها عذر تتخلى عنه خالص برضه ، و أنا مقدرة برضه الظروف اللي حواليها . . مطرقة الزوج , و سندان الابن . . شيء صعب فعلاً . .
ثم انطلقا بالسيارة , و عادا إلى المنزل ، و ودعها محمد بابتسامة خفيفة , و تمنى أن يجدوا حلاً قريباً لتلك المشكلة , و أن تساعدهما الأقدار في إنقاذ صديقهما العزيز . .
نهايـــة الفصــل الثاني عشـــر
======
الفصــل الثالث عشـــر
=======
و بالفعل اتصل والد صلاح به , و حاول أن يبدو ودوداً معه بحيث لا يستغرب اتصاله به ، أو لا يلاحظ أي شيء غريب قد طرأ قدر المستطاع ؛ فتفسد الخطة التي رسمها مع منى .
- ألو . . أيوة يا صلوحة . . عامل إيه ؟ !
- صلوحة ؟ ! مين ؟ ! بابا ؟ ! دي أول مرة يعني تدعلني ! ! خير فيه حاجة ؟ !
- أيوة طبعاً أدلعك قوي مش ابني حبيبي ؟ ! بأقولك إيه . . كنت عاوز أشوفك شوية .
- هو أنت هنا في مصر اليومين دول ولا إيه ؟ !
- أيوة . . قاعد هنا فترة كدا ، و كنت عاوزك تيجي لي الشركة النهاردة لو تقدر .
- النهاردة ؟ ! ماشي . . هاحاول آجي لك آخر النهار شوية .
و بالفعل ذهب صلاح إلى أبيه في الشركة , و كان قد ترك خبر لدى السكرتارية ؛ فأدخلوه مباشرة إلى والده الذي هبّ لاستقباله ، و أخذه في حضنه و ربت على ظهره ، و صلاح مستعجب كل تلك الحرارة في الاستقبال ، و قد رفع حاجبيه ، و لم ينبس ببنت شفة .
- أشار والده له بالجلوس ، ثم أخرج سيجاراً فخماً , و أشعله , و قال له :
- باقولك إيه يا صلح كنت عاوزك في موضوع كدا . . عاوز أخد رأيك فيه بصراحة .
- خير ! عاوز تتجوز و لا إيه ؟ ! فضحك والده حتى اهتز بدنه بشدة , ثم قال :
- ههههه . . يخرب عقلك يا صلوحة يااااه . . ما ضحكتش كدا من زمان . . و الله لك وحشة كبيرة يا واد .
- ثم أردف : لا يا سيدي . . خلاص بقى جواز إيه . . أنا جربت نصيبي مرة , و فشلت , و مش حاكرر المحاولة , و لا المأساة تاني ، خلاص بقى يا صلاح مسك الختام . . و بعدين هلاقي زي والدتك فين ؟ ! أنا اخترت طريق , و مشيت فيه للنهاية .
- مط صلاح شفتيه , و قال في حزن واضح : لسه فاكر تندم دلوقت بعد كل السنين دي ؟ ! و بعدما هي اتجوزت خلاص ، و بقى لها أسرة تانية غيرنا ؟ !
- خلاص يا صلاح ربنا يسهل لها يا بني . . دا نصيب , و مقدر عند ربنا .
- و نعم بالله . . طيب برضه ما عرفتش سبب طلبك لي يا بابا ؟ !
- يااااه . . ما سمعتهاش من زمان قوي بابا دي . . أنا ندمان قوي قوي إني سهيت في الدنيا , و البيزنس , و نسيت أهم , و أجمل مشروع في حياتي . . ابني الوحيد
- الله ؟ ! هو النهاردة يوم الندم العالمي و لا إيه ؟ ! إيه الحكاية بالضبط ؟ ! بعد كل السنين دي افتكرت إن لك ابن , و لحم , و دم أهملته , و رميته ، من غير حتى سؤال ؟ !
- كل ما كنت تتصل بي كان سؤالك واحد مافيش غيره عامل إيه في كليتك ، بقيت في سنة كم ، طيب عاوز فلوس عشان الأكل أو الشرب أو اللبس أو إيجار الشقة ؟ ضميرك صحي كدا فجأة النهاردة ؟ !
- مالك يا صلاح قاسي على أبوك كدا ليه ؟ ! أنا عارف إني مذنب , و أهملتك , و ندمان . . أهملت ابني الوحيد في الدنيا , و كل ما أمتلكه هو لك في النهاية لوحدك بس . . هو أنا عملت دا كله لمين يعني , و لمستقبل مين ؟ ! و بعدين بتكلمني كدا بلهجة حادة مش عجباني بصراحة ! !
- و منتظر مني إيه بعد دا كله ؟ ! ما أحطش في دماغي , و أقول المسامح كريم , و أطنش ؟ ! و بعدين عادي لو مش عجبك نقفل على الموضوع , و أمشي , و كأن شيء لم يكن , و كل واحد يروح لحاله !
- أمال اتصلت بك النهاردة ليه ؟ ! عشان دا كله ، عشان أنا غلطت . . و ما حدش نصحني , و لا وجهني , و وقفني , و فوقني . .
- و مين بقى اللي نصحك , و فوقك كدا ؟ !
- هه ؟ ! لا ما فيش . . بس اتفرجت على برنامج كانت فيه نفس الظروف بتاعتنا , و لقيت إني غلطان تماماً نحيتك , و مقصر خالص .
- ثم عقب : شوف يا صلاح . . أنت ابني الوحيد , و ظهري , و أهم ما أمتلكه فعلاً ، و كنت بافكر إني لو أقنعتك فعلاً تشتغل معانا هنا , و تبني حياتك , و مستقبلك معايا في الشركة دي كلها اللي هاتبقى بتاعتك يبقى دي أهم صفقة ممكن أعملها في حياتي لأنك هتكون دراعي اليمين .
- يا سلام ؟ ! و أنا أفهم إيه في شغلك دا إن شاء الله ؟ !
- مش أنت بتدرس حقوق يا بني ؟ ! و هاتتخرج السنة دي ؟ ! تتدرب , و تمسك الشئون القانونية بتاعة الشركة هنا مع الفريق لحد ما تبقى المدير بتاعهم كمان . .
تنهد صلاح , و سكت , و كأنه يدير الكلام في عقله بنوع من الشك بسبب هذا التغير المفاجئ ، و صحوة الضمير المباغت ، فلم يكن يتوقع أو يتخيل أبداً أن أباه قد يطلب منه مثل ذلك الطلب في يوم ما .
- ثم عقب والده : يا صلاح أنا تعبت , و كبرت , و لكل شيء نهاية . . و فكرت إني ممكن أموت في أي لحظة , و لازم أؤمن لك حياتك , و مستقبلك مش بس بالفلوس , ولكن بوظيفة محترمة , و مضمونة , و مربحة ، بدل ما تتلطم في مكتب محاماة تحت التمرين سنين بقرشين لحد ما ينعرف اسمك , و تفتح مكتب خاص بك يكون عمرك جرى ، يا إما تشتغل في السمسرة زي أغلب المحامين , و كل دا في الهوا بلا فايدة .
نظر صلاح في عيني والده , و لم يتكلم كأنما يستشف ما في صدره , و يستنتج طبيعة ما يحدث حوله من مفاجآت .
- جاء صوت أبيه لينبهه : هيه . . قلت إيه يا أبو صلاح ؟ ! يارب ما تخذلني , و تسمع كلام أبوك حبيبك اللي خايف على مصلحتك .
- أنت متأكد إن كل الكلام دا كله عشان مستقبلي أنا ؟ ! و ضميرك صحي كدا فجأة ؟ ! و لا فيه حاجة في الشغل هنا خايف منها تحصل , و عاوزني أساعدك فيها ؟ ! يعني أكون لك مثلاً جاسوس أو عين من عيونك تنقل لك اللي بيجرى هنا ؟ !
- ولنفترض حتى كلامك صحيح . . هو عشان تساعد والدك , و تحمي ظهره من أي غدر , و تبني مستقبلك معاه دي فيها حاجة عيب , و لا غلط ؟ !
تنهد صلاح , و سكت فلم يجد بداً من حصار أبيه له في حواره المنطقي ، و قد استغل عنصر المفاجأة , و في حصار صلاح , و إقناعه بما يريد , و لم يدع له فرصة للهرب أو التفلت منه .
- ابتسم الأب بنصره , و قال لصلاح : يبقى على بركة الله يا بني . . تحب نبدأ على طول من بكرة ؟ ! تيجي أعرفك على طقم الموظفين هنا , و طقم المحامين , و الشئون القانونية , و تركز معاهم قوي , و ترفع راس أبوك وسطهم , و عاوزهم يقولوا لي كل خير عنك يا صلوحة ماشي يا حبيبي ؟ !
- أومأ صلاح موافقاً , و قال : ماشي يا بابا . . بس هوقف شوية قرب الامتحانات بتاعتي عشان افرغ عقلي للمذاكرة شوية . . خلينا نخلص من السنة دي بقى اللي فاضلة .
- ماشي . . موافق ..
ثم صافح والده , و انصرف . . وعند خروجه صادف سكرتيرة والده , و هي واقفة تحييه , فابتسم لها ابتسامته العذبة المعتادة , و قد لفتت انتباهه بمظهرها , و ملامحها الجذابة ، , فحياها , ثم قال لها بصوت خفيض :
- هنبقى زمايل يا جميل . . ثم انصرف ..
اتصل والد صلاح بمنى بعدها , و حكى لها ما دار في المقابلة مع صلاح , و قال لها في ود شديد :
- عاوز أشكرك قوي يا بنتي على مجيتك , و كلامك معايا ، نصيحتك فوقتني , و لفتت نظري لحاجات كتيرة كانت غايبة عن بالي سنين طويلة ، دا جميل مش هانساه لكي .
- العفو يا عمو و الله دا كتير عليّ ، المهم يعني الأمور ماشية زي ما خطتنا رسمناها مع بعض ؟ ! أوعى يكون فهم ، أو عرف حاجة عني ؟
- ههههه . . كنت هقع فعلاً لكن لحقت نفسي ، ما تخافيش . . شعور غريب حسيته النهاردة , وهو بيقولي يا بابا . . حسيت رغم كل اللي عملته , وحققته , و اللي أنا فيه إلا إني محروم فعلاً . . يااااه !
- ثم سكت ، و أردف : كنت متوقع طبعاً منه التهجم , و القسوة في الكلام معايا لأني استحق , و أكتر بصراحة . . لكن كان لازم أتحمل , و امتص غضبه عشان الأمور تمشي زي ما نتمنى . . دا ابسط حق له عليّ .
- طيب هيبدأ الشغل أمتى أمال ؟
- فوراً . . و اتفقنا يركز في المذاكرة قبل الامتحانات بشوية عشان يعدي السنة اللي فاضلة له دي على خير ، أنا بأشكرك تاني مرة ، و كان لازم أشكرك يا منى .
- العفو يا عمي , و ربنا يصلح الحال ، و يتغير للأحسن , و حياته تنصلح , ونفسيته , و شخصيته تتظبط بقى . . كفاية اللي ضاع من عمره في انهيار ، عموماً يا عمي خلينا على اتصال ببعض دايماً ، ماشي ؟
- طبعاً يا منى .. من غير ما تقولي ، مع السلامة .
وضعت منى الهاتف , و شردت بذهنها قليلاً , و صورة صلاح أمامها مبتسم ابتسامته العذبة ، و هي تبتسم له , و تقول له :
- يا رب يا صلاح أقدر أساعدك فعلاً , و تتغير للأحسن ، هحس فعلاً إني عملت أكبر إنجاز في حياتي ، و الحمد لله إذا كان طريق والدته مسدود ، فيه طريق تاني مفتوح قدامنا نقدر نمشي فيه .
بالطبع لم تنس منى تتصل بمحمد , و تخبره بما دار مع والد صلاح , فهنأها بحرارة شديدة على ذلك الإنجاز ، وتحفزا للخطوة التالية .
نهاية الفصــل الثالث عشــر
======
الفصل الرابـــع عشـــر
=======
شعرت منى بالاشتياق ، و الحنين الشديد لوالدتها ، فهي قد انشغلت في هموم صلاح حتى أغرقتها تماماً حتى لم يعد لديها وقت في التفكير في غيره ، فهي إما تخطط له ، أو تتابع أخباره بعدها , و كأنها قد أقامت غرفة عميات ميدانية له .
تذكرت منى أنها لم تكلم أمها منذ أمد بعيد ، و هي غير معتادة على ذلك . اتصلت منى بها هاتفياً , و بالطبع دار الحوار بينهما بلغة اشتياق , وحب شديد . تحدثت منى في شوق واضح ، حتى اغرورقت عيونها بالدموع ، و عندما عاتبتها أمها بأنها قد نسيت أمها في خضم حياتها الجديدة في مصر ، و أنها بمجرد أن اندمجت في بلد أبيها مصر حتى أوشكت على الذوبان فيها تماماً حتى أخمص قدميها .
- قالت الأم في عتاب شديد : كدا يا منى أهون عليكِ كل الفترة دي من غير سؤال واحد منك ؟ ! أنتي عمرك ما عملتِ كدا قبل كدا ، و دي علامة إنك خلاص قربتي تنسي أمك خالص .
- ردت منى في جذع واضح : لا يا أمي و الله . . لكن الدراسة شغلتني , و الامتحانات قربت , و كنت مركزة شوية ، و كان فيه شوية مشاغل كدا هبقى أحكي لك عليها بعدين حتى لما نتقابل على الانترنت ، بس أعذريني يا أمي دا أنت اللي باقية لي من أهلي كلهم ، يمكن أهل بابا مش باشوف حد منهم خالص لغاية دلوقت .
- قالت الأم في قلق : إزاي الكلام دا ؟ ! يعني عايشة لوحدك كل الفترة دي يا منى من حتى سؤال واحد أو أي اهتمام ؟ ! طيب إزاي بتراعي نفسك , و بتدبري أمورك ؟ !
- لا خلاص الحمد لله يا ماما ، اعتمدت على نفسي في كل شيء تقريباً ، و يمكن جارنا هنا أستاذ محمد ما حضرتك عرفاه , و قابلتيه قبل كدا ، هو اللي دايماً بلجأ له , و بيساعدني لما باحتاج أي شيء .
- آه . . طبعاً عرفاه . . لكن أنا قلقانة عليكي كدا برضه . .
- عموماً هانت يا أمي كلها شوية أسابيع , و كل دا يخلص , و آجي لحضرتك أشوفك , و أقعد معاكي فترة طويلة لحد ما نشبع من بعض .
- هه ؟ ! معنى كلامك إنك ناوية ترجعي مصر تاني , و تفضلي فيها ؟ !
- دا سؤال سابق لأوانه . . مش عارفة . . خليه بعدين .
- طيب يا حبيبتي سلام دلوقت عشان ما أطولش عليكِ لنا لقاء على الانترنت قريب , و نكمل كلامنا إن شاء الله .
ودعت منى أمها , و هي تؤنب نفسها ؛ لأنها أهملتها كل تلك الفترة دون سؤال أو اهتمام .
و ما هي إلا أيام معدودات حتى فوجئت منى بأقارب لها أبناء عمومتها , و قد أتوا لزيارتها بعد كل تلك المدة دون سؤال أو حتى ذكرى ؛ لأن لهم ابنة عم أجنبية عن البلاد تعيش وحدها .
فقد فوجئت منى بطارق على الباب ، و لما انفرج عن وجهي فتى و فتاة في العقد الثاني من عمريهما حتى ابتسما لها في رقة :
- أهلاً بك يا منى في بلدك . . احنا ولاد عمك عزت بس كنا صغيرين لما اتقابلنا آخر مرة طبعاً مش فكرانا . . أنا هبة , و دا عادل ذهني . . هيه افتكرتينا ؟ !
- ابتسمت منى لهما , و رحبت بهما في أذنت لهما بالدخول ، و هي تقول : معلش يمكن فاكرة الأسماء بس لكن الشكل لأ .
- ثم حدثت منى نفسها قائلة : يظهر أن مكالمتي لماما قلبت الدنيا ههههههه .
أشارت منى لهما بالدخول إلى الريسبشن الواسع ، و قالت مرحبة :
- أهلاً بولاد عمي اللي مش بيسألوا عني خالص من ساعة ما وصلت .
- ردت هبة : لا و الله ما تقوليش كدا . . بصراحة ما كناش نعرف حاجة لحد ما اتصلت مراة عمي بأمي , و أنبتها خالص إزاي نسيب بنت عمنا كدا من غير سؤال أو رعاية .
- أكمل عادل في هدوء : بصراحة افتكرناكي سافرتي مع مراة عمي لألمانيا تاني بعد وفاة عمي الله يرحمه ، ما تخيلناش إنك هتفضلي هنا , و لوحدك ، هو طبعاً إهمال مننا لكن معلش احنا آسفين يا ريت تسامحينا .
نظرت منى له بعناية ، و شعرت بشعور القرابة يجذبها نحوهما , و هو ما لم تعتده أبداً بالمرة منذ أن استقرت في مصر ، فها هي هبة فتاة محجبة بيضاء البشرة نحيفة ذات ملامح رقيقة , و جمال هادئ ، أما عادل فكان قوي البنية وسيم الملامح السمراء تبدو عليه الملامح الشرقية جلية , و شعره المجعد .
- انتبهت منى لهما ثم عقبت : لا لا , و لا يهمكم أنا خلاص أخدت على الحياة هنا , و استقريت كمان , و كله تمام الحمد لله .
- - رد عادل على فوره : لا انسي خالص تقعدي هنا لوحدك بعد النهاردة ، بيت عمك مفتوح لك ما ينفعش تقعدي لوحدك يا منى خالص ، دي عيبة عندنا , و في وشنا .
- و أردفت هبة : عشان كمان لو محتاجة حاجة نقدر نساعدك على طول .
- ابتسمت منى , و قالت في رقة : بصراحة مش عارفة أقول لكم إيه ، أنا سعيدة بأني أشعر لأول مرة بالاهتمام , و الحب دا ، لكن مش هقدر أغير كل الحياة اللي بنتها هنا , و خلاص أخدت عليها , و نظمتها تماماً ، و عموماً هاخد تليفوناتكم , و لو عندكم فيس بوك هنتواصل أكيد برضه مع بعض .
- قال عادل مداعباً لها : يظهر العرق الألماني مخلي راسك ناشفة قوي هههههه . . عموماً لازم هانتقابل , و نتكلم كتير إن شاء الله ضروري ، مش عاوزين نفرض عليكي أمر أو واقع مش هترتاحي فيه ، لكن بمجرد ما تحسي بأي شيء أو احتاجتينا ما تتردديش اتصلي على طول آجي لك بالعربية في دقايق ، احنا مش بعيد قوي .
- ابتسمت منى , و ردت : حاضر , والله إن شاء الله ، ما انحرمش منكم .
قام عادل , و هبة فودعا منى ، و لما نزلا , و ركبا في السيارة قالت هبة لعادل :
- مش حرام القمر دا يخرج بره العيلة ؟ ! والله تبقى حمار يا عادل . . دي زي العسل خالص ، دي دخلت قلبي على طول ، و متنساش كمان ثروة عمك أدهم دي كلها هي الوريثة الوحيدة له ، يعني خسارة من كل ناحية .
- نظر لها عادل , و ابتسم ابتسامة ماكرة : معاكي حق يا هبة أنتي فهماني كويس ، عموماً خلينا معاها لحد ما تيجي برجلها ، بس خلينا على اتصال دايم بها ، دي مهما كان برضه لحمنا , ودمنا . فضحكا , و انطلقا بالسيارة .
و بالفعل انهالت المكالمات عليها إن بالهاتف من هبة , و عادل , و إما بالانترنت , فكان عادل دائم التودد لها على صفحتها على الفيس بوك , و كان يكثر من الدردشة معها لكي تألفه ، و يحيك حولها شباكه كي تقع في غرامه أو على الأقل تعتاده بحيث إذا تقدم لها لا ترفضه .
فوجئت منى باتصال على الانترنت بعد عدة أيام من أمها ، و تحدثت معها طويلاً , و كانت مكالمة غير متوقعة , و قد أهتمت منى بهم شديد لم تكن تتوقعه بعد تلك المكالمة .
- أيوة يا منى ، فيه حد من ولاد عمك اتصل بكي ؟ ! طمنيني أرجوكي !
- أيوة يا ماما هبة , و عادل ولاد عمو عزت كانوا هنا من كم يوم . . يظهر إنك شدتيهم جامد , و لا إيه ؟ !
- طبعاً يا منى . . والدك كان له أفضال عليهم كلهم , و جمايل على عمك , و ولاده كمان ، و ياما ساعدهم , و نفذ لهم طلبات كتيرة ، إما بالفلوس ، و إما بالوساطة ، و دا أبسط رد لكل الديون اللي عليهم لوالدك ، رغم إني مش بارتاح لهم لكن برضه مهما كان دول قرابة , و الدم مش يمكن يبقى مية .
- ثم أردفت أمها : كنت عاوزة أكلمك يا منى فيه خبر ما كنتش عاوزه أزعجك به الفترة دي بالذات لكن مش إيدي يا بنتي و الله .
- خير يا ماما خضتيني . . فيه إيه ؟ !
- تعبت قوي في الفترة الأخيرة ، و كنت باتألم في بطني , و الآلام لا تحتمل ، و لما رحت لدكتور متخصص قال إن فيه ورم في الرحم , و لازم يشوفه , و أعمل له فحوصات .
- ثم أكملت الأم بعد برهة : عملت الفحوصات , و التحاليل , و لقينا إن العينة بتقول إن الورم خبيث , و لازم نشيله في أقرب وقت . . و طبعاً أنتي عارفة ماليش حد هنا من قرايبي في نفس البلدة دي ، و أغلبهم في بلدات تانية هنا ، و أنتي عندك امتحانات . .
- قاطعتها منى في جذع شديد : ألف سلامة عليكي يا ماما إن شاء الله خير , و هتقومي بالسلامة لنا . .
ثم بدأت تبكي حتى علا صوتها ، فهدأتها الأم من روعها كثيراً , ثم قالت لها ؛ لتطمئنها :
- الدكتور قالي إن ممكن نأجل العملية شهر كدا لحد ما تخلصي الامتحانات بتاعتك ، و بعدين لما تخلصي تيجي هنا جنبي في الوقت دا . . و ما تخافيش يا حبيبتي أنا على طول هنا إما باعمل تحاليل , و فحوصات أو باقعد في المستشفى للرعاية فترات طويلة .
- أنا هاجي لك مش مهم الامتحانات يا أمي أنتي أهم طبعاً . .
- لا لا أوعي تهدي اللي بنيناه مع والدك الله يرحمه ، دا كان حلمه , و حلمك كمان يا منى . . أنا آسفة يا بنتي إني سببت لك كل الارتباك دا . . لكنه القدر يا حبيبتي مش بيدي و الله . .
ثم أغلقت معها الاتصال , و قلبها يعتصر ألماً , و خوفاً على أمها ، فصارت بين شقي الرحا ، بين مرض أمها الخطير , و بين امتحاناتها , و حلمها , و حلم أبيها ، فلم تجد سوى محمد لتتصل به , و تستشيره ، و تمنت لو كانت العلاقة بينها , و بين صلاح كما يرام , و موصولة لكانت استشارته , وأتنست برأيه ، و ليكون بجانبها في مثل تلك الأوقات العصيبة .
نهاية الفصــل الرابع عشـــر
========
الفصــل الخامس عشـــر
========
لم تجد منى بداً من الاتصال بمحمد , واستشارته فيما تفعل في تلك الظروف التي طرأت عليها , و تكاد تقلب كل ما تخطط له في حياتها الجديدة رأساً على عقب .
- اتصلت به , و هي مضطربة تتخبط في دروب الحيرة ، فقد لاحظ أن صوتها قد جاءه على غير المعتاد : أيوة يا منى خير ؟ ! مال صوتك ؟ !
- أيوة يا محمد معلش أنا شغلاك بمشاكلي , و على طول بأزعجك ، لكني والله مش عارفة ألجأ لمين في الحيرة اللي أنا فيها دلوقت !
- لا يا منى دا أنتِ أختي والله ، اتفضلي معاكي .
- اتصلت بي والدتي , و هي هتعمل عملية خطيرة في ألمانيا , و هي عاوزة تأجل العملية ؛ لبعد امتحاناتي , و أنا خايفة عليها خالص خاصة في سنها دا . . كان نفسي يكون صلاح جنبي في الموقف اللي أنا فيه دلوقت لكن . . يا الف خسارة ! !
- تحبي أتصل لك به , و أفوقه و أخليه يكلمك غصب عنه , و يستسمحك ؟ !
- لا طبعاً . . لازم التصرف دا يجي منه هو ، و أنا متعجبة فعلاً من انقطاعه دا كله , و كأن مافيش أي شيء ، و ضميره و لا بيأنبه على اللي عمله معايا . باتمنى بس أنه في يعرف قد إيه بحبه , و أتمنى له حياة سوية , و كان نفسي أساعده لآخر لحظة .
- آه . . معاكي حق فعلاً . . يا رب يقدر في يوم اللي بنعمله له دا كله , و الوقت , و الجهد اللي بيبذله عشان حياته , و سعادته . . المهم خلينا في مشكلتك يا منى دلوقت عشان دي لازم نشوف لها حل عاجل ، هو تقرير الدكاترة إيه ؟
- قالوا هي مستقرة دلوقت الفترة دي ، و ممكن تتأجل بعض الأسابيع بس ، لكن برضه الحالة النفسية ممكن تأثر عليها سلبياً خاصة في سنها دا .
- و مالها الحالة النفسية يا منى ؟ !
- خايفة عليّ قوي خالص ، و رغم محاولاتي أطمنها لكن ما فيش فايدة ، لدرجة أنها خلت قاريبي اللي بقالي سنين طويلة لا شفتهم , و لا كلمتهم جم , و بيتصلوا بي على طول بصراحة .
- طيب دا شيء كويس رغم كل الظروف اللي بتمري بها . .
- ثم تنهد , و قال لها بعد فترة صمت : أنا من رأيي تصبري شوية لحد فترة الامتحانات دي ما تعدي على خير , و بعدها تروحي لها , و يحلها ألف حلال .
- هو دا طلب ماما برضه . . رغم إني خايفة لكن ربنا يستر ، قلبي مش مرتاح يا محمد ، ربنا يعديها على خير .
- خير إن شاء الله ، و إذا جد أي جديد كلميني على طول , و هنشوف حل ما تقلقيش ضروري .
هدأت منى نوعاً ما بعد تلك المكاملة التي دفعتها ؛ لتنجز ما أمامها من مذاكرة لتنتهي من تلك الفترة العصيبة , و تتفرغ لأمها التي هي في أمس الحاجة إليها .
فكانت توصل الأيام في المذاكرة حتى بدأت بالفعل , و كانت تنجزها على أكمل وجه , و استقرت أمورها على ما يرام ، فكانت بعد الامتحانات كل يوم تكلم أمها على الانترنت يومياً ؛ لتطمئن عليها ، حتى أتتها مكالمة عادل التي أربكتها بشدة ، فقد حدثها على صفحتها في الفيس بوك , و سألها عن خططها بعد الامتحانات , فأخبرته بمرض أمها , و أنها قد تسافر إليها لتكون إلى جانبها ، فعرض عليها أن يسافر معها للاطمئنان على أمها ؛ لأنها جزء من العائلة مهما كان ، و لابد من الوقوف إلى جانبها في تلك الظروف العصيبة . بالطبع اندهشت منى من الطلب , و لم ترفض أو تجب حتى تفهم ما يرمي إليه , فقال لها :
- طبعاً احنا لحم و دم يا منى , و لازم نقف مع بعض في وقت الشدة , و لا إيه ؟ ! لازم مراة عمي تلاقينا كلنا حواليها , و مش ناسينها .
- دا شعور نبيل قوي ، أشكرك عليه يا عادل خالص ، لكن أنا لسه مش عارفة لسه هسافر امتى إن شاء الله أنا لسه باقي لي كم مادة , و بعدين لسه هرتب إجراءات السفر .
- ثم جاءها صوته , و فيه نبرة التردد : ماشي . . منى . . كنت عاوز أسألك سؤال كدا يعني احنا خلاص بقينا أصحاب , و ولاد عم . . يا ترى أنتي إيه مشاريعك بعد ما تخلصي دراسة ؟ يعني عاوزة شغل هنا , و دا سهل نساعدك فيه , و لا الارتباط الأول ؟ !
- همممم . . بصراحة الارتباط مش في بالي خالص حالياً ؛ لأنها أمور معقدة شوية ، هو ممكن بالنسبة للشغل أو أكمل دراسات عليا سواء هنا أو بره إن شاء الله ، دي كلها لسه أفكار .
- أنا من رأيي تخلي الارتباط في أولوياتك عشان الاستقرار ، و كمان مراة عمي تطمن عليكي . . و لا فيه حد أنتي مرتبطة به في ألمانيا مثلاً ؟
- سكتت منى فترة قبل أن تجيبه ، فقد كان تدخلاً سافراً في حياتها , و شئونها الشخصية انزعجت منه ثم ردت بعد فترة : قلت لك الارتباط مش في أولوياتي خالص حالياً .
- ماشي . . معلش أنا آسف . . مش قصدي أزعلك , و لا أضايقك يا منى . . دا بس مجرد سؤال .
أغلق عادل الاتصال معها , و هو يشتعل غيظاً أنه لم يتوصل لما يريده ، فأخبر أخته هبة بما جرى ، فأشارت عليه بأن يترك لها هذا الموضوع .
و بالفعل كلمتها بعدها بيومين على صفحتها , و سألتها :
- بأقولك إيه يا منمن . . احنا بنات زي بعض ، بذمتك كدا مافيش حد في ألمانيا , و لا هنا في مصر , و لا معاكي في الكلية مش شاغل قلبك ؟ !
- هنا أدركت منى الصلة بين حوارها , و حوار عادل منذ يومين فقالت في هدوء : و الله يا هبة ، هو فيه فعلاً واحد معايا في الكلية ، و متفقين على كل حاجة تقريباً لكن بعد ما نخلص الكلية إن شاء الله .
لم تدر منى بنفسها إلا , و هي تقول تلك الكلمات ؛ لكي تغلق هذا الباب تماماً الذي يلح عليه إبناء عمها بل , و يصرون على التحدث فيه ، ففضلت أن تغلق باب الرجعة ، و لم تدر أنها قد فتحت أبواب جهنم عليها .
- و هنا شعرت هبة بالغيظ الشديد خاصة , و أن ما كانت ترجوه , و أخوها , و ما خططا له ينهار بكل بساطة أمام أعينهما , فسألتها : و دا بقى اسمه إيه ، و لا أهله مين ؟ !
- ردت منى باستغراب : ليه السؤال العجيب دا ؟ ! أظن مالوش لزمة , و لا فايدة تعرفي !
- حاولت هبة التظاهر بالهدوء : أصل بصراحة كدا يا منى عادل أخويا معجب بكي قوي ، و كان لسه مكلمني عليكي م فترة , و أنا قلت له يسيب لي الموضوع دا لي أنا ، و قلت له إننا أولى ببنت عمنا لحمنا و دمنا . . احنا اللي أبقى لك طبعاً يا منمن .
- و الله أنا مقدرة الشعور الطيب دا . . و لكن دي مسألة قسمة و نصيب طبعاً مش كدا و لا إيه ؟ !
- أنتي لسه صغيرة يا منى ، و يمكن مش عارفة مصلحتك كويس , و بتتصرفي بعواطفك بس مش بتحكمي عقلك زيي . . ما يمكن الشاب دا طمعان فيكي أو مش كويس لازم تفكري في الموضوع من كل جهة . . يعني شوفي مصلحتك مع مين . فقاطعتها منى بحدة :
- مصلحة . . مصلحة هي إيه علاقة حب , و لا صفقة ؟ !
- علاقة حب إيه , و بتاع إيه بس ؟ ! سيبك من الكلام الفاضي دا . . لما باكلمك عن عادل دا ابن عمك هيراعيكي طبعاً , و يراعي والدتك , و مالكم , و يصونكم , و يخاف عليكي هو مش أنتي حتة مننا و لا إيه ؟ !
- شعرت منى بالغضب ينتابها من تلك الطريقة في الحوار , و الجدل , فقالت : أظن الارتباط دا مش وصاية , و لكنه حاجة كدا ربانية مالناش يد فيها ، مش مسألة مصالح بتحكميها بس ، و عموماً كل دا سابق لأوانه ؛ لأني مشغولة في المذاكرة خالص ، و بعدها دراسات عليا , و بعدين تيجي أي حاجة تانية .
- و ماله ذاكري , و اعملي دراسات زي ما أنتي عاوزة و أنت مرتبطة برضه عشان عمرك ما يضعش منك ، و السنين تجري .
- ماشي يا هبة ربنا يسهلها ، إن شاء الله . . عن إذنك عشان بس عندي امتحان . . سلام ..
لم ترتح هبة من طريقة حوار منى معها ، و لا من ختمة حديثهما ، و لكن شعرت بأنها تريد تمييع , و تسويف الموضوع كنوع من الرفض المقنع ، فشعرت بأن زمام الأمور ينفلت منها , و من أخيها ؛ فشاورته طويلاً , و تدخلت الأم معهما ، و أشارت عليه بأن يتصل بزوجة عمه ، و يفاتحها في الموضوع ؛ ليلتفوا من حول منى ؛ و لكني يتقدم لمنى قبل أن يسبقه ذلك الشاب الآخر المجهول بعد نهاية السنة الدراسية ، فاتصل بها بالفعل , و حدثها بنفس المنطق , و المبرر الذي ساقته هبة في حوارها ، فانفعلت والدتها و هتفت فيه :
- أظن دا موضوع يخص منى أكتر مني شخصياً ، و هي صاحبة الشأن , و كلمتها هي الأخيرة !
- يعني إيه ؟ ! دا أنا قلت حضرتك هتفميها مصلحتها فين ، و تحكم عقلها بدل ما تضيع كل شيء .
- تضيع إيه ؟ ! هو دا وقته دي دي في امتحانات , و مش فاضية للكلام دا كله ، ممكن ما تكلمهاش في حاجة لو سمحت تاني ؟ ! و بعدين أنا لما كلمتكم عشان تراعوا منى , و تاخدوا بالكم منها مش تشغلوها , و تشتتوا تركيزها ! أرجوك دا مش وقته ، و بلاش نفتح الموضوع د تاني خالص لحد ما تخلص .
- ماشي . . ماشي ، موافق لكن برضه مش هسمح بحد ياخد منى مني ، و لا يخطفها كدا من وسطنا , و احنا بنتفرج عليها ، و يلطش اللي حليتها علشان خاطر المشاعر , و الحب , والعبط دا . .
أغلقت أمها الهاتف بحدة ، و انخرطت في بكاء حار طويل خوفاً على ابنتها مما يحاك لها فقد اتضحت الأمور , و بانت المؤامرة التي تدبر لها بسبب المال , و بحجة الزواج .
ساءت أحوال الأم الصحية , و تدهورت بسرعة بسبب الانهيار , و التوتر النفسي العنيف الذي تعرضت له ، و لم تتصل بمنى , و لم تبين لها أي شيء خوفاً على مصلحتها , و حتى لا تشتت تركيزها ، وانشغلت منى في امتحانها فعلاً , و لم ترد على أي هاتف لا من هبة , و عادل , و لم تفتح الانترنت بعدها لكي تقتطع خط الرجعة عليهم .
نهاية الفصـــل الخامس عشــر
======
الفصــل السادس عشـــر
========
و بعد انتهاء امتحانات منى , و صلاح , و محمد حان وقت الحصاد لكل منهم ، فكل يغني على ليلاه .
منى كانت تريد الاطمئنان على صلاح , و حياته الجديدة قبل سفرها لأمها لمراعاتها , والبقاء إلى جوارها .
و صلاح كان يريد قبل أن يبدأ في الانشغال بأبيه , و العمل الجديد المنتظر أراد أن يغلق الملفات القديمة المفتحة , و التي تركها حتى ينتهي من دراسته , و على رأسها ملف منى الذي لم يكتمل بعد ، و محمد كان ينتظر تنفيذ ما عوله ؛ ليستطيع مفاتحة سهير بما يختلج صدره من مشاعر دفينة الأضلاع .
و بالفعل أقبل صلاح علي منى في " الكافتريا " يجر ساقية جراً ، تلعثم كثيراً , و لم يعرف من أين يبدأ ، أصاخت له السمع , و لم تصده ففي داخلها مازال حبه الغرير .
- ممكن . . أشرح لك موقفي . . في . . في مكان هادي ؟ ؟
- أومأت له موافقة , و قد ركزت عينها في عينيه : ماشي .
و في الطريق شرح لها وجهة نظره التي لم تقنعها بالطبع ، و لكنها رثت لحاله ؛ فسكتت . . ثم سألها :
- و دلوقت . . سامحتيني يا منى ؟ ؟
- قالت أخيراً : رغم حجم اللي حصل لي , و رفضي لكل اللي عملته شكلاً , و مضموناً ، إلا أن قلبي مافيش في وسعه غير إنه يسامحك .
فابتسم ابتسامة النصر فأخفاها ، ثم اقترب منها , فأشاحت بوجهها عنه , فبدأ الغضب يعتريه ، فهتف بها :
- ليه بتبعدي عني دلوقت ؟ ! مش خلاص سامحتيني ؟ !
- أيوة . . لكنك من النوع اللي بيحب البنات الضعاف ، و طبعاً بتقل قيمتها في عينك على طول يوم عن يوم ، و أنا مش النوع دا يا صلاح .
- فاربد وجهه غيظاً , و تنمر صوته فجأة , و قال في غلظة : بتقولي إيه ياختي ؟ ! أنتي فاكرة نفسك مين ؟ ! شغالة قاضية , و لا عالمة نفس ؟ ! فرويد في زمانه يعني ؟ ! ماجتش لسه البنت اللي ترفضني , و لا تصدني , و تذلني كدا ، أنتي مجرد بنت مغرورة ، كلكم زي بعض ، تجروا ورا الارتباط , و كلمة حلوة تطير قلوبكم , و هدية حلوة تضحك على عقولكم ، أنا مش شرير يا آنسة ، أنا بشر فيه الخير و الشر مع بعض ، و الحب عندي هو مجرد وسيلة لهدف عندي مش غاية في حد ذاته .
ثم قام , و انصرف لا يلوي على شيء ، و قد توقعت منه ذلك ، فدفعته لما فعلته دفعاً ؛ ليخرج ما بداخله أمامها ، فلحقت به هاتفة :
- لا يا صلاح ، الحب مش مجرد وسيلة لغرض في ذهنك ، و لكنه هدف بيدور عليه الإنسان عشان سعادته ، و عمر ما كان هدفي هو إني أوقعك في فخ الجواز اللي مرعوب منه كدا .. طبعا باحب الكلمة الحلوة اللي ترضي غرور أنوثتي زي أي بنت ، لكن بشرط يكون للكلمة دي رصيد حب الأول في قلبي , و إلا بقى زي شيك بدون رصيد ، مجرد حبر على ورق .. اللي بيحب عمره ما يرضي لحبيبه التعاسة و العذاب .
- قال ساخراً : خلاص . . امسكي لسانك دا شوية , و وفري كلامك الخيالي دا عشان أبحاثك يمكن تنفعك ، اللي باعمله يا ست الكل دا هو الواقع في نظري اللي المفروض بتعمل .
ثم ولى مدبراً بعدما كشفته أمام نفسه ، ففضل الهروب قبل الهزيمة أمامها .
توجهت منى لمحمد في الكلية , و أخبرته لما حدث , فقال لها شارداً :
- كنت متوقع دا يحصل . . لأنه كان عندي قبلها , و تحداني بأنه هيضحك عليكي , و يغرر بكي بالمسرحية الهزلية اللي عملها قدامك . . و ما سمعنيش للأسف الشديد .. بس كنت مطمن إنك حتعملي الصح معاه أكيد .. كان نفسي أحكي له أنتي عملتي قد إيه عشانه و و هو مش عارف , و لا حاسس يمكن يقدر كل دا , و كل التضحيات دي .
- كان لازم أواجهه بنفسه المريضة عشان يراها مشوهة زي ما هي ، لكنه اتراجع , و لسه في نفس طريقه القديم و مصّر إنه يخدعني برضه ، لكن برضه كويس إنك ما قلتش حاجة له عشان يخرج كل اللي جواه خالص , و يجي يوم يتولد فيه من جديد , و ساعتها هيعرف كل حاجة , و يقدر .
أظهر القدر نواجذه لمنى ؛ فقد توالت النكبات متتابعة , و كأنها كانت تنتظرها ، فقد جاءها اتصال هاتفي من رقم ألماني , فإذا به الطبيب الخاص بأمه يحدثها :
- هل الآنسة منى معي ؟
- نعم سيدي . من حضرتك ؟ !
- أنا الطبيب المسئول عن علاج والدتك . . يؤسفني بشدة إخبارك بأن والدتك قد تدهورت صحتها في الفترة السابقة بصورة سريعة , و شديدة , و قد نبهت علينا جميعاً بعدم الاتصال بكي تحت أي ظرف . . و لكن . . قد توفيت أمس , و كان لابد أن أخبرك لإتمام الإجراءات . . يمكنك الاتصال بنا عندما تصلين ألمانيا على هذا الرقم . . آسف بشدة سيدتي .
سقط الهاتف من يديها , و هي تصرخ كالمجنونة , و تضع كفيها على عينيها ؛ لتغرق في بحر حزن عميق ليس له قرار . فقدت الأب و الأم , و لم يعد لها أحد الآن . و أخذت تؤنب نفسها على تضييعها للوقت قبل السفر إليها ، ليتها تركت الامتحانات ، ليتها لم تستمع لكلماتها ، لعلها كانت قد ستظفر بآخر نظرة لها أو حتى بكلمة وداع .
أخذت كالمجنونة تبحث عن صدر تصرخ فيه عن يد تمسح دموعها اتصلت بمحمد فلم يجبها ، و أقاربها كانت قد عاهدت نفسها بألا تتصل بهم , و لا تقربهم منها بعدما حدث , و لم تدر أنهم من قتلوا أمها بطمعهم , و حماقتهم ، فلم تجد بداً من صلاح .
لم تأت أخبار جديدة لمنى عن صلاح , و كانت تمر الأيام , و جاء موعد حجز السفر، و لم تجد بداً من التوجه إليه في مقر شركة أبيه .
و هناك سألت عنه زملاءه ؛ فأخبروها بأنه توجه إلى البوفيه , و هناك ألفته كعادته أنيقاً حليقاً , فغزت بسيرها صوبه , و ما أوشكت على الاقتراب حتى لمحت فتاة بصحبته ممسكاً بيدها , فكانت الصاعقة كانت سكرتيرة والده .
خيم ظلام الذهول عليها فلم تدر بنفسها إلا و هي هائمة على غير هدى قلبها ينهصر يكتوي ألماً ، و سياط الغدر و الهزيمة تلهب ظهرها .
إذن فقد اختار طريقه بكت و بكت كثيراً .. كانت حبات اللؤلؤ المنثورة على وجنتيها تغسل ما لاقت من جراح و آلام ولت , و تروي الطريق الذي انتوته , و قررته ..
و في بيتها خطت كلمات أودعتها ببريد شركته , و بعد عدة أيام تسلمها ، فضها , و قرأها بتمعن وسط ذهول و ندم رهيب :
" حبيبي صلاح :
نعم حبيبي ؛ لأني أحببتك , و لازلت بكل ما في قلبي من نبض , و مشاعر ، فلم ينبض سوى بهواك إن كنت تظنني قد تمنعت عنك غروراً فقد أخطأت كعادتك بل ؛ لأنني أحبك , و أردت الاحتفاظ بك ، لكن في إطار كرامتي دون إفراط أو تفريط . كانت محاولة صعبة حاولت الاحتفاظ بك , و بكرامتي سوياً ، التي أردت إهدارها بتعذيبي كأخريات ممن سبقوني , و من سيأتون بعدي ، لكني فضلت الهرب منك ، من واقع قاسٍ إلى واقع قد يكون قاسياً أيضاً . . لكن على الأقل لن تكون فيه يا صلاح . .
وددت الاحتماء بصدرك من الحزن ، و بكلماتك من المصائب التي حلت بي لكن يا ألف خسارة .
أردت النيل مني , و من قلبي . . أليس كذلك ؟ !
ثم ترميني كالنفاية الحقيرة . . أردت تحطيم اللعبة الجميلة التي كنت تعبث بها ، لترى ما بداخلها كأي طفل غرير .
و عندما حاولت مساعدتك بأيدٍ بيضاء ، اسأل والدك و والدتك أيضاً أما أنت حاولت خداعي بأيدٍ ملوثة بالكذب , و الانتقام . و لما يئست مني نسيتني مدة سواد الليل ، و كأن شيئاً لم يكن ، لتصبح على فتاة أخرى تعبث بها ، و تجرب تعذيبك فيها ، لم أرغب في التدخل أكثر من ذلك ؛ لأني لن يجدي شيئاً ، حاولت تغييرك بأقصى ما استطيع , و لكن فشلت .
لقد رفضتني , و لفظتني من حياتك ، لقد اخترت طريقك بالفعل ، و تمسكت به مع أنني لم أيأس منك أتعرف لماذا ؟ !
أنني أحببتك يا صلاح . . نعم أحببتك . . تلك الكلمة التي لم و لن تعرفها أبداً . . لن تنال مني أكثر . . كفاك تعذيباً . . كفاك هذا . . لن أدعك تمثل بقلبي أكثر من ذلك ، سأحرم نفسي منك . . و أحرمك مني . . من دميتك اللذيذة لن تراني ثانيةً . . لن تعرف حتى عنواني . . حتى محمد نفسه لا يعرفه فلا تحاول . . و عندما تقرأ خطابي هذا أكون قد طرت خارج مصر . . عالم جديد , و حياة أخرى , و واقع بعيد عنك . . لعلي أنساك , و أنسى كل ما يذكرني بك . . و سأحاول حتى أنجح يا صلاح . . لعلي أشفى منك . .
الآملة في الغد القريب
منـــــــــــــــــــــــــــى
نهاية الفصــل السادس عشـــر
=======
الفصـــل الأخيـــــــر
========
و لما فرغ من الرسالة رفع وجهه المغمور بدموع الندم و الألم الدفين .
حتى أوشكت تبكي دماً يخضب إثمه البالي .. سقطت يده بجواره مصعوقاً لهول ما قرأ , و أصابه في مقتل كالبارود .
أخذ يشيح بيده يتحسس طريقه بغير هدى .. فهوى فوق أول مقعد صادفه بلا حراك .. غطى وجهه بيده , و على نشيجه ، لأول مرة يرفع عينيه للسماء يتضرع فيها إلى الله ؛ ليغفر له عاره الذي طالما اقترفه , و لطخه .
هرول إلى أبيه , و دخل عليه , و هو يصرخ :
- هي منى جات لك هنا ؟ !
- نظر له أبوه , و قال منزعجاً من منظره المريع : أيوة كانت هنا , و كلمتني , و هي اللي اقترحت عليّ كمان فكرة شغلك معايا عشان تبدأ حياة جديدة ، و أكفر بها عن إهمالي لك كل الفترة اللي فاتت . . ليه يا بني بتسأل ليه ؟ ! مالك قولي إيه اللي حصل ؟ ! فلم يرد عليه بل انطلق كالمجنون , و لم يدر بنفسه يمشي بلا هدى ، لم يدر إلى أين يلجأ , و لمن يصرخ .
تذكر صديقه محمد ، فتوجه إليه لعله يجد لديه الملاذ أو حلاً ينقذ به أي شيء . .
تذكر كلمات صديقه بأنه سيجني حصاد ما زرعه يوماً ندماً و ألماً .
و ما كاد يصل بيته ، حتى فتحت له أمه على غير العادة ، و التي بدا عليها الأسى جلياً , و الدموع تغرورق في عينيها ، و سألها منزعجاً .
- خير يا طنط ؟ ! فين محمد ؟ !
- ردت أخيراً في ألم شديد : دا حابس نفسه في أوضته ، لا بيتكلم ، و لا بيشوف حد ، و لا بياكل حتى الزاد ، مش عارفة إيه اللي حصل له , و لا اللي جرى له .
- ثم أردفت بعد فترة صمت : من شوية أيام انقلب حاله خالص ، لدرجة إني جبت له دكتور نفساني ، قال لي إنه بيعاني من أزمة نفسية حادة لموقف اتعرض له على أغلب الظن .
فاستأذن منها , و دلف غرفه محمد في بطء ، و ما كاد يقترب ، حتى ألفاه مفتوح العين ينظر للا شيء . تبدو عليه آثار الشحوب البالغ ، زائغ البصر شارده ، لا ينبس ببنت شفه ..
فأخذ صلاح يحدثه متودداً , و لا يرد محمد عليه , و كأنه أصم ..
- فهتف به صلاح : رد علي يا محمد . . أنا صلاح صاحبك و أخوك . . إيه اللي حصل لك ؟ !
فلم يرد عليه ، فطفرت الدموع من عيني صلاح ، فجلس إلى مكتب محمد ممسكاً برأسه الساقطة بين كفيه ينعي حظه , و حظ صديقه العاثر ، فإذا به يلمح ورقه أمامه , و بخط محمد ، نعم هو خطه ، كتبها إلى سهير يقول فيها :
" عزيزتي الحبيبة سهير :
لا أدري كيف أبدأ ، لكني لا أسطيع صبراً على كتمان مشاعري أكثر ، شجعني سؤالك عني في ذلك اليوم البديع في حياتي ، و نظراتك العميقة التي أسرتني , و خلبت فؤادي ، فكشفت عما بداخلك تجاهي يا حبة القلب .
تشجعت لأخبرك بمكنون صدري حبي المتنامي نحوك كلما رأيتك ، فلا أكتم إعجابي بكِ , و بحسنك الذي فاض , فأغرق عيني , و قلبي , فكتبت لكِ قصائد , و في جمالك رسمت لوحة تزين حياتي كلها .
لقد شغلتِ حياتي , و تفكيري خاصة بعد اتصالك بي في يوم لا أنسى دقائقه في عمري .
فأنتِ الماضي والحاضر والمستقبل . . لم و لن أحب أحداً في حياتي غيرك يا سهير . .
روحي تعشق روحك . . قلبي ملك هواكِ ، فلست في جرأة قلمي ، لكن كل كلمة كتبتها لكِ محفورة في فؤادي يا حبيبتي . "
بكى صلاح في حرقه على ما تسبب فيه لأعز من في حياته , و لحبيبته ، جنى عليهما ، فقد اكتشف فجأة مدى الجرم البشع الذي ارتكبته يداه . . صديقه الذي فتح له قلبه قبل بيته .
- فهب نحوه , وأخذ يهتف فيه : أنا السبب يا محمد . . أنا اللي عملت فيك دا كله . . أنا المذنب . . الندل . . أنا اللي كدبت عليك ، و افتريت على سهير ، و ادعيت سؤالها عنك , و اخترعت المكالمة على لسانها عشان تتعلق بها أكتر ، عشان تنشغل بها عني , و عن منى . . أنا الشرير . . أنا الشيطان نفسه . . أستحق الرجم . . عذبتك يا صاحبي , وعذبت منى . . عشان أتلذذ بعذابكم . . عشان أشبع انتقام من الكل حتى من أعز الناس لي .
- و هنا نطق محمد في خفوت متقطع الكلمات , و لا زال على حاله الضائعة : رحت لسهير . . و دورت عليها في كل مكان .. و حطيت الورقة دي في كتابها من غير ما تحس عشان قررت أعمل كدا آخر ما احترت . . و في تاني يوم جات لي , و هزأتني , و مسحت بي الأرض قدام الكل . . قالت لي إنها مش حاسة بأي عاطفة نحيتي ، و إننا مجرد أصدقاء بس . . و إنها عمرها ما اتصلت , و لا سألت عني . . و اتهمتني بأني أشنع بسمعتها . . انهارت أحلامي زي بيت الرمل مع أول موجة . . أهنيك يا صلاح . . أنت انتقمت مني فعلاً ، و انتقمت مننا كلنا يا صاحبي .. ربنا يسامحك عن كل اللي عملته في . . أقصد . . يا من كنت صاحبي . . روح امشي و سيبني أرجوك . . كفاية كدا . .
خرج صلاح من عنده يتخبط طريقه ، كوطواط ضل سبيله ، فقد أتت الضربتان في مقتل ، و في آن واحد . . حبيبته وصديقه . .
فجثم الهم على صدره لا يريم . . فقد الصديق , و الحبيبة إلى الأبد .
أخذ يصرخ في أغوار نفسه الكليمة هائماً على وجهه في الطرقات .
- ضيعت أملي , و كل حياتي بإيدي . . أنا وصمة عار في حياته , وحياتها . . حطمتهم . . و دلوقت قلبي بتفتت . . صحيح . . كما تدين تدان . .
سار صلاح في دربه لا يرى شيئاً ، فأخذته قدماه حتى وصل إلى ضفة شاطئ الكورنيش . .
و في نفس المكان الأول وقت الغروب الساحر , و تحت الشجرة الوارفة تلك . . ها هي الشمس تغرق رويداً رويداً في صفحة النيل الباردة الملساء ، فيبتلعها . .
سار محاذياً لسياج كورنيش النيل ، و قد خلع سترته يجرها خلفه ، يئن من مرارة الأسى . .
ركل حجراً في طريقه ، فسط في الماء محدثاً تموجات ، فركن إلى السياج واتكأ عليه ناظراً لصورته التي تشوهت على صفحة الماء المتموج . .
- همس في تهكم لتلك الصورة الممزقة : أراك أمس يا صاحبي . .
** نهايـــــة الحـــب الســــادي **
** تمـــــــــــــــــــــــــــــــــــت **
**********************
لمطالعة بقية الحلقات من هنا
:
https://tmearn.com/L7ZMLTjh
لدعم القناة على موقع باتريون
To Donate this channel on
Patreonhttps:
www.patreon.com/eqraany
يمكنكم متابعة الرواية كاملة بالاستماع لها من خلال الكتاب الصوتي على قناتي على يوتيوب
افضل الكتب في مجال التنمية البشرية ستجدها على هذا الرابط
ردحذفhttps://kotobefree.blogspot.com/